المسؤولية التقصيرية في المغرب

تُعد المسؤولية التقصيرية من أهم المفاهيم القانونية في النظام القانوني المغربي، إذ تشكل أحد الأركان الأساسية لضمان الحقوق وردع الأفعال الضارة التي تُلحق أذى بالغير دون وجود رابطة عقدية. تهدف هذه المسؤولية إلى إعادة التوازن القانوني من خلال تعويض المتضرر، وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية. وفي إطار القانون المدني المغربي، تم تنظيم أحكام المسؤولية التقصيرية بشكل يُراعي خصوصية العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويعتمد على مبادئ عامة مستقاة من القواعد الفقهية والقانونية الحديثة.

تندرج المسؤولية التقصيرية ضمن نظام المسؤولية المدنية، الذي يتفرع إلى مسؤولية عقدية تنشأ من الإخلال بالعقد، ومسؤولية تقصيرية تقوم على الفعل الضار. ويُعالج القانون المغربي هذا النوع من المسؤولية بشكل مفصل في قانون الالتزامات والعقود، وهو المرجع الأساسي الذي يُحدد نطاقها وأركانها وآثارها. كما تُؤطرها قواعد فقهية مستمدة من الفقه الإسلامي، والتوجهات القضائية والاجتهادات التي تُسهم في توضيح التطبيق العملي لها.

مفهوم المسؤولية التقصيرية

تُعرف المسؤولية التقصيرية بأنها الالتزام الواقع على الشخص نتيجة ارتكابه فعلاً غير مشروع يُسبب ضرراً للغير دون أن تكون هناك علاقة تعاقدية تجمع بينهما. ويترتب على ذلك الالتزام تعويض المتضرر، سواء كان الضرر مادياً أو معنوياً، شريطة توفر شروط معينة.

وتقوم هذه المسؤولية على قاعدة “لا ضرر ولا ضرار”، حيث يُعاقب الشخص على سلوكه الضار الذي يُخالف الواجبات القانونية العامة، ويُلزَم بإصلاح الأذى الذي تسبب فيه. تختلف هذه المسؤولية عن المسؤولية العقدية في أن الأخيرة تقوم على إخلال باتفاق مُبرم بين طرفين، في حين أن التقصيرية تُبنى على مخالفة لواجب قانوني عام.

الأساس القانوني في القانون المغربي

ينظم القانون المغربي المسؤولية التقصيرية في الفصول من 77 إلى 106 من قانون الالتزامات والعقود، والتي تُحدد بوضوح الشروط اللازمة لقيام هذه المسؤولية والأحكام المرتبطة بها. وقد نص الفصل 77 على ما يلي:

“كل فعل يرتكبه الإنسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون، فيسبب ضرراً مادياً أو معنوياً للغير، يلزم من ارتكبه بتعويض هذا الضرر إذا ما ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر”.

هذا الفصل يُبرز العناصر الأساسية للمسؤولية التقصيرية، وهي: الفعل الضار، الخطأ، الضرر، والعلاقة السببية بين الفعل والضرر.

أركان المسؤولية التقصيرية

1. الخطأ

الخطأ هو الركن الأول لقيام المسؤولية التقصيرية، ويتمثل في سلوك غير مشروع، مخالف للقاعدة القانونية أو لواجب اجتماعي، ويُعد الشخص مخطئاً إذا تصرف دون حيطة أو تهاون أو تعدّى الحدود المعقولة.

ويمكن أن يكون الخطأ إيجابياً (مثل الإتلاف أو الاعتداء)، أو سلبياً (كالإهمال أو التقصير في اتخاذ الاحتياطات). وقد يتخذ صورًا متعددة، كالإهمال أو سوء النية أو التجاوز.

2. الضرر

لا تقوم المسؤولية التقصيرية في القانون المغربي بدون وجود ضرر، ويجب أن يكون حقيقياً، ومباشراً، وشخصياً للمجني عليه. ويمكن أن يكون الضرر:

• مادياً: مثل فقدان مال، أو تلف ممتلكات، أو خسائر تجارية.

• معنوياً: كالألم النفسي، أو المساس بالسمعة أو الشرف.

3. العلاقة السببية

يشترط وجود علاقة سببية بين الخطأ المرتكب والضرر الناتج عنه. فإذا انقطع تسلسل السببية بسبب قوة قاهرة أو خطأ الغير، فلا تقوم المسؤولية.

ويُعتبر وجود هذه العلاقة من أهم شروط إثبات الحق في التعويض، ويُراعى فيها أن يكون الفعل هو السبب المباشر والمُعتاد لوقوع الضرر، وفقاً لما يُقرره القاضي بناءً على الوقائع.

أنواع المسؤولية التقصيرية في القانون المغربي

ينص قانون الالتزامات والعقود على صور متعددة من المسؤولية التقصيرية، يمكن تصنيفها على النحو التالي:

1. المسؤولية عن الفعل الشخصي

وهي المسؤولية التي تقوم على خطأ صدر عن الشخص نفسه، سواء كان عملاً مادياً كإتلاف شيء، أو معنوياً كالسب أو القذف. وتُعد هذه الصورة هي الأكثر شيوعاً في الدعاوى المدنية.

2. المسؤولية عن فعل الغير

في بعض الحالات، يتحمل الشخص تبعات أفعال غيره، كالمسؤولية التي تقع على:

• الآباء عن أفعال أولادهم القاصرين.

• المعلمين عن أفعال تلامذتهم.

• أرباب العمل عن أفعال مستخدميهم أثناء العمل.

وقد نظم المشرع هذه المسؤولية في الفصلين 85 و86 من قانون الالتزامات والعقود.

3. المسؤولية عن الأشياء

يُمكن أن تنشأ المسؤولية عن الأضرار الناتجة عن الأشياء الخاضعة لسيطرة الشخص، مثل الحيوانات، أو الأبنية، أو الآلات. ويُلزم القانون صاحب الشيء أو من له السيطرة عليه بالتعويض إذا ثبت أن الشيء تسبب في الضرر، كما ورد في الفصلين 88 و89.

تقادم دعوى المسؤولية التقصيرية

ينص الفصل 106 من قانون الالتزامات والعقود على أن:

“تتقادم دعوى التعويض المترتبة عن الفعل الضار بمرور خمس سنوات من اليوم الذي علم فيه المتضرر بالضرر وبالفاعل، ولا يمكن في جميع الأحوال أن تتجاوز مدة التقادم عشرين سنة من وقوع الضرر”.

وهذا يعني أن المتضرر يفقد حقه في المطالبة بالتعويض بعد مرور هذه المدة، ما لم تكن هناك ظروف استثنائية تُبرر مد التقادم.

مقارنة بين المسؤولية التقصيرية والعقدية

الاجتهاد القضائي في المسؤولية التقصيرية

تلعب الاجتهادات القضائية دوراً كبيراً في تطوير المفاهيم القانونية المتعلقة بالمسؤولية التقصيرية. وقد تبنّت المحاكم المغربية في العديد من القضايا توجهات مرنة تُراعي الواقع الاجتماعي والاقتصادي. ومن بين المبادئ القضائية الراسخة:

• التوسع في تفسير الخطأ بما يشمل جميع صور السلوك غير المشروع.

• الاعتراف بالضرر المعنوي والتعويض عنه.

• إعطاء أهمية كبيرة للعلاقة السببية.

• التشدد في حالات الضرر البيئي أو الصحي الناتج عن إهمال مهني.

المسؤولية التقصيرية والمسؤولية الجنائية

رغم أن كلاً من المسؤولية التقصيرية والمسؤولية الجنائية تتقاسمان مبدأ الخطأ كأساس، إلا أن هناك فرقاً جوهرياً بينهما:

• المسؤولية الجنائية تهدف إلى حماية المجتمع وفرض العقوبة.

• المسؤولية التقصيرية تهدف إلى تعويض المتضرر وإصلاح الضرر.

وقد يتقاطع النظامان حين ينجم عن الفعل ضرر للغير وجريمة في نفس الوقت، مما يفتح المجال أمام المتضرر للمطالبة بالتعويض أمام المحكمة المدنية، إلى جانب العقوبة الجنائية.

أثر القوة القاهرة في المسؤولية التقصيرية

تُعد القوة القاهرة أو الحادث الفجائي أحد أسباب انتفاء المسؤولية، إذا ثبت أن الفاعل لم يكن باستطاعته توقع الحدث أو دفعه. ومن أمثلة القوة القاهرة:

• الزلازل والكوارث الطبيعية.

• الفيضانات.

• أفعال الغير غير المتوقعة.

ويشترط أن تكون القوة القاهرة مستقلة عن إرادة الفاعل وغير متوقعة وغير قابلة للدفع.

مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها

في بعض الحالات، قد تُقام دعوى المسؤولية التقصيرية ضد الدولة نتيجة أعمال موظفيها التي تُلحق ضرراً بالغير. ويُشترط لقيام هذه المسؤولية:

• أن يكون الفعل غير مشروع.

• أن يُنسب إلى موظف عام أثناء أداء مهامه.

• أن يترتب عليه ضرر مباشر للغير.

وقد أقر القضاء المغربي هذه المسؤولية في العديد من القرارات، خاصة في حالات التجاوز في استعمال السلطة أو الإهمال الإداري.

الخلاصة

تُعد المسؤولية التقصيرية من أبرز الآليات القانونية لحماية الأفراد من الأفعال الضارة، وتعويض المتضررين بطريقة تُرسّخ مفاهيم العدالة والإنصاف في المجتمع المغربي. كما تُعبر عن التوازن الدقيق بين الحرية الفردية والمسؤولية المدنية، وتُعزز من مكانة القانون كمرجع لتسوية النزاعات خارج نطاق العلاقات التعاقدية.

ومن خلال تنظيمها في قانون الالتزامات والعقود، والاجتهاد القضائي المتطور، تُمثل هذه المسؤولية أداة فعالة لضمان الحقوق وردع السلوكيات الضارة، بما يتماشى مع تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب.

المراجع:

1. قانون الالتزامات والعقود المغربي (الطبعة الرسمية).

2. عبد الرزاق السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني”.

3. قرارات محكمة النقض المغربية – مجموعة قرارات حديثة.

4. مصطفى شفيق، “المسؤولية المدنية بين الفقه والقضاء”.

5. مجلة المحاكم المغربية، أعداد متفرقة.

هل ترغب أن أرفق نسخة PDF من هذا المقال؟