المسؤولية التقصيرية في القانون

تُعدّ المسؤولية التقصيرية من المبادئ الجوهرية في القانون المدني المصري، وتشكل الأساس الذي يقوم عليه تعويض الضرر الناتج عن فعل غير مشروع. وهي تختلف عن المسؤولية العقدية، إذ لا يشترط في الأولى وجود علاقة تعاقدية بين المضرور والمُسبب للضرر. وتستند المسؤولية التقصيرية إلى قواعد عامة تنظمها أحكام القانون المدني، وبخاصة المواد من 163 إلى 178، حيث تضع هذه المواد الإطار القانوني الذي يُلزم الشخص بتعويض الغير إذا أخلّ بالتزام قانوني أو أحدث ضرراً نتيجة إهماله أو تعدّيه أو تقصيره، دون الحاجة لوجود اتفاق سابق.

ماهية المسؤولية التقصيرية

المسؤولية التقصيرية هي التزام قانوني يُفرض على من ارتكب فعلاً خاطئاً سبب ضرراً للغير، بأن يعوض هذا الضرر. وهي تندرج تحت ما يُعرف بـ “العمل غير المشروع”، ويترتب عليها التزام بالتعويض بناءً على نص القانون وليس بناءً على عقد أو التزام اتفاقي. وقد نظم المشرّع المصري هذه القواعد بشكل دقيق، وحدد الشروط التي يجب توافرها لقيام المسؤولية التقصيرية.

الفرق بين المسؤولية التقصيرية والعقدية

من المهم التمييز بين المسؤوليتين:

• المسؤولية العقدية تنشأ عند الإخلال بالتزام تعاقدي.

• المسؤولية التقصيرية تنشأ عن فعل غير مشروع دون وجود علاقة تعاقدية مسبقة.

هذا الفرق الجوهري له أثر في تحديد الجهة القضائية المختصة، وطبيعة الإثبات، ونطاق التعويض.

أركان المسؤولية التقصيرية

لكي تقوم المسؤولية التقصيرية، يجب توافر ثلاثة أركان أساسية:

أولاً: الخطأ

الخطأ هو الركن الأساسي في قيام المسؤولية، ويقصد به الإخلال بواجب قانوني يفرضه القانون، سواء أكان ذلك عن عمد أو عن إهمال أو رعونة أو تجاوز حدود السلوك المألوف. ويشمل الخطأ الفعل الإيجابي كما يشمل الامتناع متى كان هناك التزام قانوني بالعمل.

وقد يكون الخطأ:

• شخصياً إذا كان الفعل صادرًا عن الجاني نفسه.

• مفترضًا كما في حالات مسؤولية متولي الرقابة أو مسؤولية متولي حراسة الأشياء.

ثانياً: الضرر

لا تقوم المسؤولية التقصيرية إلا إذا وُجد ضرر أصاب المضرور. والضرر قد يكون:

• ماديًا مثل فقدان مال أو إصابة جسدية.

• أدبيًا مثل الألم النفسي أو المساس بالسمعة أو الشرف.

يشترط في الضرر أن يكون محققًا (أي وقع فعلاً)، وأن يكون مباشرًا وشخصيًا بالنسبة إلى المدعي.

ثالثاً: العلاقة السببية بين الخطأ والضرر

لا يكفي مجرد وجود خطأ وضرر، بل يجب أن تكون هناك علاقة سببية مباشرة بين الخطأ المرتكب والضرر الذي حصل. فإذا ثبت أن الضرر كان سيقع حتى بدون الخطأ، فلا تُقام المسؤولية. كذلك، إذا انقطع تسلسل العلاقة السببية بسبب قوة قاهرة أو خطأ من الغير، قد تنتفي المسؤولية.

أنواع المسؤولية التقصيرية

1. المسؤولية عن الفعل الشخصي (المباشر)

نصّت المادة 163 من القانون المدني المصري على أن “كل خطأ سبب ضررًا للغير يلزم من ارتكبه بالتعويض”. وتُعد هذه القاعدة الأصلية في المسؤولية التقصيرية، إذ يكون الشخص مسؤولًا عن الضرر الذي تسبب فيه نتيجة لفعله أو إهماله.

2. المسؤولية عن فعل الغير

يتسع نطاق المسؤولية التقصيرية ليشمل أفعال الآخرين، وذلك في حالات محددة نص عليها القانون، ومنها:

• مسؤولية الأب أو الأم عن أفعال أولادهما القُصر.

• مسؤولية المتبوع عن أفعال التابع.

• مسؤولية متولي الرقابة عن من هم تحت رقابته (مثل المعلم أو المربي أو الوصي).

3. المسؤولية عن الأشياء

وتقوم على مسؤولية الشخص عن الأضرار التي تنشأ عن الأشياء التي تقع تحت حراسته، مثل الأبنية، والآلات، والحيوانات. وهي مسؤولية لا تقوم على الخطأ، بل على أساس الحراسة، كما في المادة 178 من القانون المدني: “كل من تولى حراسة شيء وكانت له قدرة الاستعمال والتوجيه والرقابة عليه، فهو مسؤول عن الضرر الذي يحدثه ذلك الشيء”.

تطور مفهوم الخطأ في الفقه والقضاء المصري

شهد الفقه المصري تطورًا في تفسير عنصر الخطأ، وانتقل من المفهوم الضيق إلى مفهوم موسع يشمل كل إخلال بواجب قانوني حتى لو لم يرتبط بنص صريح، طالما أن هناك قاعدة أخلاقية أو عرفية مُعترف بها. كما توسّع القضاء في تحميل الأشخاص المسؤولية بناءً على مبدأ “الضرر يُزال”، واستنادًا إلى فكرة “الخطأ المفترض” في حالات متعددة كمسؤولية الأطباء، والسائقين، وحُرّاس الأشياء الخطرة.

التعويض في المسؤولية التقصيرية

تقدير الضرر

يُقدّر الضرر من قبل المحكمة بناءً على طلب المضرور، ويشمل التعويض الجوانب المادية والمعنوية. ويجوز أن يكون التعويض نقديًا أو عينيًا (مثل إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الضرر).

المبادئ التي تحكم التعويض

• التعويض الكامل: يجب أن يعادل الضرر دون أن يكون مصدر إثراء للمضرور.

• جواز الجمع بين التعويض المادي والأدبي.

• تقدير التعويض يتم وفقًا للظروف الشخصية للمضرور.

تقادم دعوى المسؤولية التقصيرية

تنص المادة 172 من القانون المدني على أن “تسقط دعوى التعويض الناشئة عن العمل غير المشروع بانقضاء ثلاث سنوات من اليوم الذي علم فيه المضرور بحدوث الضرر وبالشخص المسؤول عنه، وتسقط في جميع الأحوال بانقضاء خمس عشرة سنة من يوم وقوع العمل غير المشروع”. إلا أن هناك استثناءات، مثل الحالات الجنائية التي لا تبدأ فيها مدة التقادم إلا بعد صدور حكم نهائي.

المسؤولية التقصيرية في المجال الطبي

أصبحت المسؤولية الطبية من أهم تطبيقات المسؤولية التقصيرية، إذ يمكن مساءلة الطبيب عن أي خطأ طبي يُلحق ضررًا بالمريض، مثل التشخيص الخاطئ أو إجراء عمليات دون موافقة. ويشترط لإثبات المسؤولية أن يكون هناك خطأ جسيم وخروج عن أصول المهنة.

المسؤولية التقصيرية في مجال حوادث المرور

تُعدّ حوادث المرور من أبرز أسباب الدعاوى المدنية. وقد أقرّ القانون رقم 72 لسنة 2007 الخاص بالتأمين الإجباري على السيارات، مسؤولية السائق عن الأضرار الجسدية والمادية التي يُسببها للغير، ويُتيح للمضرور المطالبة بتعويض حتى دون إثبات الخطأ، مستندًا إلى مسؤولية الحراسة.

جدول: مقارنة بين المسؤولية التقصيرية والعقدية

المسؤولية التقصيرية في ظل المبادئ الدستورية

جاء الدستور المصري ليؤكد مبدأ التعويض العادل للمواطنين عن الأضرار، وربط بين مفهوم العدالة الاجتماعية والمسؤولية المدنية. وقد أكّد المشرّع من خلال التشريعات المتتالية هذا الحق، خصوصًا في القوانين المتعلقة بالبيئة، والتلوث، وحماية المستهلك، ما يعكس تطورًا في مفهوم العدالة المدنية.

خاتمة

تُشكّل المسؤولية التقصيرية أحد الأعمدة الأساسية في بناء النظام القانوني المدني، ووسيلة فعالة لحماية الأفراد من الأضرار التي يمكن أن تصيبهم من جراء أفعال الآخرين. كما أنها تعكس التوازن بين حرية الأفراد في التصرف وضرورة احترام حقوق الآخرين. ومن خلال تطور الفقه والقضاء المصري، أصبحت المسؤولية التقصيرية أداة ديناميكية تتفاعل مع متغيرات المجتمع وتُسهم في ترسيخ العدالة وضمان التعويض المنصف لكل مَن تضرر من فعل غير مشروع.

المراجع:

1. القانون المدني المصري – نصوص المواد من 163 إلى 178.

2. الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء السابع.

3. أحكام محكمة النقض المصرية في قضايا التعويض والمسؤولية التقصيرية.

4. قانون التأمين الإجباري على السيارات رقم 72 لسنة 2007.

5. المبادئ الدستورية في الدستور المصري المعدل 2014.