المرأة عندكم تُباع وتُشترى باسم المهر: قراءة نقدية اجتماعية وتاريخية

في كثير من المجتمعات، تتردّد عبارة “المرأة عندكم تُباع وتُشترى باسم المهر” على ألسنة المنتقدين سواء من داخل البيئة الثقافية نفسها أو من خارجها، تعبيراً عن شعور عميق بأن مؤسسة الزواج قد تحوّلت، في بعض الأحيان، إلى ساحة معاملات مادية تخضع لمنطق السوق، لا لقيم المودة والرحمة التي يفترض أن تقوم عليها. يستند هذا المقال إلى قراءة موسّعة للنظام الاجتماعي المرتبط بالمهر، ويستعرض جذوره، دلالاته، تحوّلاته التاريخية، مظاهره المعاصرة، والتداعيات النفسية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليه، ضمن سياق نقدي يروم تحرير المرأة من أغلال التشييء والتنميط القائم على المال.

أولاً: المهر بين المفهوم الديني والتطبيق الاجتماعي

في الأصل، يُعرّف المهر في الشريعة الإسلامية على أنه حق مالي يُقدّم للمرأة عند الزواج، ولا يُشترط أن يكون مرتفعًا، بل المقصود به تكريم المرأة ومنحها شيئًا من الاستقلال المادي عند بدء حياتها الزوجية. يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

“وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً” [النساء: 4]، أي أن المهر يُعطى طوعًا وكرمًا، لا كرهاً ولا إذلالاً.

غير أن هذا المفهوم الشريف تحوّل في التطبيق العملي في كثير من البيئات إلى وسيلة للضغط والتفاخر، بل إلى سلعة تحدد قيمتها حسب المؤهل الدراسي، النسب، الجمال، والوظيفة. في كثير من الحالات، لا يُنظر إلى الرجل كشريك حياة بقدر ما يُقيَّم كـ”مستثمر” عليه أن يدفع الثمن المطلوب ليحصل على “الصفقة”. وهنا تتبدّى خطورة الانحراف في المفاهيم، حيث يُفرغ الزواج من روحه الأخلاقية والوجدانية، ويصبح مجرّد عقد بيع غير معلن.

ثانياً: المهر عبر العصور: من التكريم إلى التسليع

ما قبل الإسلام

في الجاهلية، لم تكن المرأة تملك أي حق مادي، وكان وليّها يزوّجها لمن يشاء ويأخذ مهرها لنفسه، حتى أن بعض القبائل كانت تعقد صفقات بين أولياء النساء دون إشراكهن أو حتى إعلامهن. المهر لم يكن حينها يعكس تكريمًا للمرأة، بل كان مقابلًا لحق الاستمتاع بها، الأمر الذي دفع الإسلام لإحداث ثورة تشريعية عظيمة حين نص على أن المهر حق خاص بالمرأة، لا يملكه أبوها ولا أخوها ولا أي وصي عليها.

العصور الإسلامية

شهدت الفترات الإسلامية الأولى التزامًا أكثر توازنًا بتعاليم المهر. فقد كانت المهور غالبًا رمزية، حتى أن بعض الصحابيات تزوّجن بمهر لا يتجاوز وزن خاتم من حديد، واعتُبر هذا من كمال الإيمان والتواضع. غير أن هذا الاعتدال لم يستمر طويلًا؛ فمع تعاقب العصور وانتشار المظاهر الطبقية، بدأت المهور ترتفع وتتحوّل إلى معيار للتميز والوجاهة، مما أعاد إنتاج المشكلة بشكل مقنّع.

العصور الحديثة

في الوقت الراهن، تعاني مجتمعات كثيرة من تضخم المهور إلى مستويات فلكية، حتى أن الزواج أصبح مستحيلاً على قطاع واسع من الشباب، ما أدى إلى تفاقم ظواهر العنوسة، العلاقات خارج إطار الزواج، وأحيانًا الانهيارات النفسية. وبلغت بعض الحالات حد تحويل المهر إلى قائمة من “الشروط الاستثمارية” تشمل الأثاث، الذهب، السيارة، بل وحتى ترتيبات السفر والسكن.

ثالثاً: المهر بين التشييء والتوازن النفسي

عندما يُربط الزواج بالمهر المرتفع، تُفقد المرأة جزءًا من كرامتها الإنسانية، إذ تُختزل قيمتها في مقدار ما يُدفع فيها. هذا يُسهم في ترسيخ عقلية التشييء، حيث تُرى المرأة كمنتج يخضع للتفاوض والمزايدة. وينعكس ذلك بشكل خطير على نفسيتها؛ فهي تشعر بأنها لا تُحب لذاتها بل لما تمثّله من صفقة رابحة. في كثير من الحالات، تؤدي هذه النظرة إلى هشاشة العلاقة الزوجية، إذ يعتقد الرجل، ضمنيًا، أنه “اشترى” حقه الكامل، مما يولد علاقات قائمة على السيطرة لا المشاركة.

تداعيات اجتماعية

• ارتفاع معدلات الطلاق: الزواج الذي يبدأ بمعادلة تجارية يفقد مقدرته على مقاومة الأزمات.

• ضعف الاستقرار الأسري: كثير من النساء يشعرن بأنهن رهائن لثمن دُفع فيهن، ما يقلل من حسّ الشراكة.

• تفشي الزواج القائم على المصلحة: المهور المرتفعة تجذب الباحثين عن المال لا عن الأسرة.

رابعاً: الطقوس المرتبطة بالمهر وتكريس النزعة الاستهلاكية

المهر لا يأتي عادة بمفرده، بل تصاحبه مجموعة من الطقوس الاجتماعية التي تعزّز من النزعة الاستهلاكية المبالغ فيها: حفلات الخطبة، ليلة الحناء، الأعراس الفخمة، المأكولات الفاخرة، تجهيز العروس، وغيرها من مظاهر التبذير. كل هذه الأمور تُحمّل الأسرة تكاليف باهظة لا تعكس جوهر الزواج بقدر ما تمثّل محاولة للتماهي مع الأعراف، خوفاً من الوصمة الاجتماعية.

في بعض المناطق، يتم الاتفاق على مهر مرتفع عمدًا، مع نية التنازل عنه لاحقًا، فقط لحفظ ماء وجه العائلة أمام الناس، وكأن الأمر لا يتعلق بعلاقة زوجية بل باستعراض اجتماعي.

خامساً: المنظور الاقتصادي: الزواج كعبء لا كمؤسسة

من الناحية الاقتصادية، أصبح الزواج اليوم يُنظر إليه على أنه مشروع مالي مُكلف، خاصة بالنسبة للشاب الذي يُطالَب بدفع المهر، وتحمّل تكاليف العرس والسكن والتجهيز. هذه المتطلبات تُدخل الشباب في دوّامة من القروض والديون، تُثقل كاهله وتُضعف قدرته على بدء حياة أسرية مستقرة.

مقارنة عالمية

سادساً: النسوية والمهر: موقف فكري

الحركات النسوية الحديثة ترى في المهر صورة من صور التمييز الاقتصادي بين الرجل والمرأة. فبينما يُطالب الرجل بتحمل العبء المالي، تُستخدم المرأة كوسيلة لتحصيل المال عبر المهر والشروط. وهذا التوزيع غير العادل يكرّس الأدوار التقليدية ويحول دون تحقيق مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات داخل العلاقة الزوجية.

المجتمعات التي تسير باتجاه إلغاء المهر أو الاكتفاء بمبالغ رمزية تُعتبر في نظر الحركات النسوية أكثر عدلاً، لأنها تضع الرجل والمرأة على قدم المساواة، وتمنح العلاقة بعدها الإنساني لا المادي.

سابعاً: المهر في الإعلام والثقافة الشعبية

تعزّز الأفلام والمسلسلات والبرامج الاجتماعية من ترسيخ صورة المهر كوسيلة لإظهار الثراء والوجاهة الاجتماعية. في كثير من الأعمال الفنية، يظهر الرجل الغني وهو يتقدّم لخطبة المرأة “ويغدق عليها المال والمجوهرات”، وكأن هذا هو المعيار الأول والأخير لاختيار الشريك. هذه الصورة تؤدي إلى نتائج كارثية، حيث تُربّى الأجيال الجديدة على قناعة بأن المال أهم من القيم في تكوين الأسرة.

ثامناً: حلول مقترحة لإعادة التوازن

1. إعادة التثقيف المجتمعي: نشر الوعي بين الأسر حول المفهوم الحقيقي للمهر كحق رمزي، لا كصفقة.

2. سن تشريعات تحد من المغالاة: مثلما فعلت بعض الدول التي حدّدت سقفًا للمهور حماية للنسيج الاجتماعي.

3. تعزيز القدوة: إبراز نماذج ناجحة لزيجات بسيطة ومبنية على المودة لا على المال.

4. إشراك المرأة في قرار المهر: حتى لا يُفرض المبلغ دون رضاها ويُستخدم كأداة تفاخر.

5. التحفيز على الزواج الجماعي: كوسيلة لكسر حاجز التكاليف المادية.

خاتمة

تحوّل المهر من وسيلة تكريم إلى أداة تسليع، ومن تعبير عن المودة إلى مدخل للتفاخر الطبقي، يحمل في طياته أزمة عميقة في فهم مؤسسة الزواج. ليس في المهر نفسه خطأ، إنما في طريقة التعامل معه. المجتمعات التي تريد النهوض بأسرتها لا بد أن تعيد النظر في هذا المفهوم وتُعيده إلى مساره الأخلاقي الإنساني، بعيدًا عن منطق السوق والمقايضات. فالمرأة ليست سلعة تُقوَّم بالدراهم، بل شريكة حياة لا يُقدَّر عطاؤها بثمن.

المراجع:

1. الكواكبي، عبد الرحمن. طبائع الاستبداد. دار الفكر، دمشق.

2. محمد الغزالي. فقه السيرة. دار الشروق، القاهرة.