المباهلة في الإسلام وأحكامها

المباهلة في الإسلام: معناها، مشروعيتها، وأهميتها العقدية والتاريخية

المباهلة من المفاهيم القرآنية التي ترتبط مباشرة بإثبات الحق ودحض الباطل في المواقف التي لا ينفع فيها الجدل العقلي ولا البرهان المنطقي، فتُستخدم كوسيلة إيمانية غيبية يُرجع فيها إلى الله للفصل بين أهل الحق والباطل من خلال دعاء مشترك يتوسل فيه الطرفان بأن يُنزل الله لعنته أو عذابه على الكاذبين منهما. وقد وردت المباهلة في القرآن الكريم في سياق حوار النبي محمد ﷺ مع وفد نصارى نجران، لتتحول هذه الحادثة إلى قاعدة من قواعد العقيدة الإسلامية في التمييز بين الإيمان والضلال عند استعصاء الأدلة.

تعريف المباهلة لغة واصطلاحًا

المباهلة في اللغة مأخوذة من مادة “بَهَلَ”، وهي تدور حول معنى التخلية وترك الشيء بلا مانع، ويُقال “باهَلَ فلانٌ فلانًا” إذا تواعدا على أن يدعو كل واحد منهما على الكاذب منهما بلعنة الله أو عقابه. ويُستعمل الفعل “باهل” أيضًا للدلالة على الدعاء بأن يبهل الله الكاذب، أي يتركه لعذابه وعقوبته.

أما في الاصطلاح الشرعي، فالمباهلة هي أن يجتمع فريقان مختلفان في أمر عقائدي أو ديني شديد، ثم يدعو كل فريق بأن يُنزل الله لعنته أو عذابه على الفريق الكاذب أو المبطل. وهي صورة من صور الحِجاج الإيماني الذي يُلجأ إليه عند تعذر الحسم عن طريق الأدلة العقلية والنقلية.

المباهلة في القرآن الكريم

وردت المباهلة في القرآن الكريم في سورة آل عمران، في سياق الحديث عن الحوار العقائدي الذي دار بين النبي محمد ﷺ ووفد نصارى نجران، حيث قال الله تعالى:

“فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين”

(آل عمران: 61)

هذه الآية نزلت بعد أن قدّم النبي ﷺ البراهين الواضحة على صدق رسالته، وعلى بشرية عيسى عليه السلام، ونقضه لعقيدة التثليث، لكن الوفد النصراني لم يقبل. عندها أُمر النبي بالمباهلة، وهي دعاء مشترك بين الطرفين لإنزال اللعنة الإلهية على الكاذب. وكان هذا التحدي الحاسم الذي يفصل بين من يطلب الحق ومن يُكابر.

حادثة مباهلة النبي ﷺ مع نصارى نجران

جاء وفد من نصارى نجران إلى المدينة المنورة بعد أن سمعوا برسالة النبي محمد ﷺ، وكانوا من النصارى المتعمقين في اللاهوت المسيحي، وممن يؤمنون بعقيدة ألوهية المسيح. جرى بين الوفد والنبي حوار طويل حول شخصية عيسى عليه السلام، حيث بيّن النبي بالأدلة القرآنية والمنطقية أن عيسى عبد لله ورسول، وليس إلهاً أو ابن إله، كما يزعم النصارى.

وعندما أصر الوفد على رأيه رغم وضوح البراهين، نزلت آية المباهلة، فدعاهم النبي إلى المباهلة. وعندما حضروا لمكان المباهلة، خرج النبي ﷺ ومعه الحسن والحسين (أبناءه في النسب من فاطمة)، وفاطمة (ابنته) وعلي بن أبي طالب (زوج ابنته ونفسه بنص الآية)، وعندما رآهم وفد النصارى، قال كبيرهم:

“إني لأرى وجوهًا لو دعت الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني”.

فتراجع الوفد وطلب الصلح، وامتنع عن المباهلة، مما أظهر قوة النبي ﷺ وعظمته ومكانة أهل بيته.

شروط المباهلة وضوابطها

المباهلة ليست مجرد وسيلة دعائية أو سلاح يستخدمه أي شخص في أي خلاف، بل لها شروط شرعية وضوابط دقيقة، من أهمها:

1. أن يكون الموضوع من أصول الدين، وليس من الفروع أو الاجتهادات، لأن المباهلة تتعلق بالحقائق الكبرى للعقيدة، كالتوحيد، والنبوة، وتحريف الشرائع.

2. إقامة الحجة والبراهين أولًا، فلا تُلجأ المباهلة ابتداء، بل بعد أن يتم تقديم كل الأدلة، ويصر الطرف الآخر على المكابرة.

3. أن يكون الداعي للمباهلة على يقين من صدقه، ويثق أنه على الحق، وإلا فقد يُهلك نفسه بدعائه على نفسه إن كان هو الكاذب.

4. التجرد من الأهواء، فالمباهلة عبادة عظيمة تستدعي صفاء القلب ونية خالصة، لأن الدعاء فيها استنزال للعقوبة الإلهية.

5. أن يكون الطرف الآخر أهلًا للمباهلة، أي أنه ممن يعقل ويقبل الاحتكام إلى الدعاء والعدل الإلهي، لا من أهل العناد والجهل.

أنواع المباهلة

1. المباهلة العامة: وهي المباهلة التي تقع بين المسلمين والكافرين، كما في قصة النبي مع نصارى نجران، وتُستخدم في قضايا العقيدة الكبرى.

2. المباهلة الخاصة: وهي التي تقع بين المسلمين أنفسهم إذا ادعى أحدهم الكذب على الآخر في أمر عقدي أو ديني جوهري.

3. المباهلة الفردية: تقع بين شخصين في قضية دينية أو عقائدية خطيرة، ويشترط فيها ما سبق ذكره من الضوابط.

المباهلة بين أهل السنة والشيعة

في الموروث الشيعي، تُعتبر حادثة المباهلة من أهم الأدلة على فضل أهل البيت، حيث يرون في مشاركة الحسن والحسين وفاطمة وعلي رضي الله عنهم دلالة على علو مكانتهم. ويستدل بعض علماء الشيعة بأن علي بن أبي طالب كان “نفس النبي” لقوله تعالى: “وأنفسنا وأنفسكم”، فجعله الله نفس الرسول.

أما أهل السنة فيرون أن حادثة المباهلة لا تدل على عصمة أحد من الصحابة أو أهل البيت، لكنها تبرز فضائلهم ومكانتهم، دون أن تخرجهم من بشريتهم، ويؤكدون أن المباهلة دليل على الصدق لا على العصمة، وأنها مناسبة لتعظيم أهل بيت النبي كما ورد في كثير من الأحاديث.

أثر المباهلة في العقيدة الإسلامية

المباهلة لا تُستخدم اليوم بين عموم الناس، لكن بقيت لها دلالتها العقدية الكبرى، وهي:

• إثبات أهمية اليقين في العقيدة: فلا يصح أن يُبادر الإنسان إلى المباهلة إلا إن كان على يقين مطلق من الحق الذي يحمله.

• الاعتراف بأن العقيدة لا تُفرض بالقوة، وإنما تُعرض بالحجة، والمباهلة وسيلة حاسمة حين تفشل كل الحجج الأخرى.

• بيان فضل أهل بيت النبي ﷺ، حيث اختارهم النبي للمباهلة، وهم يمثلون صفوة الصفوة في الطهارة والإيمان.

• تحذير من الكذب في الدين، لأن المباهلة دعاء بالعقاب على الكاذب، وهو أمر خطير لا ينبغي التساهل فيه.

المباهلة في التاريخ الإسلامي بعد النبي ﷺ

لم يكن اللجوء إلى المباهلة شائعًا بعد عصر النبي، إلا في حالات نادرة. فقد رُوي عن بعض العلماء من السلف أنهم دعوا للمباهلة في مسائل عقدية، كالإمام ابن تيمية حين دعا بعض خصومه للمباهلة في مسائل الإيمان، وكذلك الإمام الشافعي حين نُقل عنه أنه دعا خصمًا للمباهلة في أحد الأمور. وكان هذا نوعًا من التحدي الإيماني.

لكن الفقهاء اتفقوا على أن المباهلة اليوم يجب أن تكون محكومة بضوابط شرعية دقيقة، وأنها لا تكون وسيلة للتفاخر أو التحدي الشخصي، بل هي وسيلة لإحقاق الحق حين لا يبقى مجالٌ للبرهان المنطقي أو الحوارات المعتادة.

الفوائد التربوية والإيمانية للمباهلة

• تعزيز مقام الصدق واليقين في النفس، إذ أن المسلم لا يُقدم على المباهلة إلا إن كان مؤمنًا تمامًا بصدقه.

• التأكيد على أن الحق لا يُساوم عليه، وأن المؤمن يجب أن يدافع عن دينه حتى آخر الوسائل.

• بيان أن الله سبحانه يفصل بين عباده بالعدل، وأنه يستجيب لدعاء عباده المظلومين والمحقين.

• ترسيخ فكرة أن الحوارات الدينية لا بد أن تقوم على الحجة لا على المجادلة الفارغة، وأنه عندما يُنكر الطرف الآخر الحق، فالحكم إلى الله.

مقارنة بين المباهلة والحجج الأخرى

الخلاصة

المباهلة ليست مجرد دعاء عابر، بل هي عبادة عظيمة تُستخدم في أضيق الحدود، حين يبلغ الخلاف مداه وتتعذر كل السبل، فهي إعلان ثقة بالحق، وتوسل إلى الله ليفصل بين عباده. وقد جسّد النبي محمد ﷺ أسمى صور اليقين حين دعا للمباهلة ضد نصارى نجران، وخرج بأهل بيته الكرام الذين يمثلون طهارة الرسالة.

والمباهلة تبقى شاهدًا على أن الإسلام دين لا يفرض معتقده بالقوة، بل يعرضه بالبيّنة، ثم يُرجع الحكم إلى الله. ومن أراد أن يُباهل فليتق الله، وليكن على بينة من أمره، فإن دعاء المباهلة لا يُطلقه إلا صادق، ولا يجرؤ عليه إلا مُخلص.

المراجع:

1. تفسير الطبري، تفسير آية المباهلة، آل عمران: 61

2. ابن كثير، البداية والنهاية، قصة وفد نصارى نجران