الماء المطلق والمشمّس في الفقه

الفرق بين الماء المطلق والماء المشمّس

يُعدّ الماء من الأمور الجوهرية في الشريعة الإسلامية، لما له من دور أساسي في تحقيق الطهارة التي هي شرط لصحة كثير من العبادات، كالصلاة والطواف وغيرها. وقد أولى علماء الفقه عناية بالغة بتقسيم أنواع المياه وتحديد أحكام كل نوع منها، سواء من حيث صلاحية استعماله في الطهارة أو تأثير العوامل المختلفة عليه. ومن بين هذه الأنواع، يبرز الفرق الدقيق والمهم بين الماء المطلق والماء المشمّس، وهو موضوع هذا المقال الذي يسعى إلى توضيح هذين النوعين بالتفصيل من حيث التعريف، الخصائص، الأحكام الفقهية، وأقوال العلماء، مع الإشارة إلى الخلفيات الصحية والتطبيقية المتعلقة بهما.

تعريف الماء المطلق

الماء المطلق هو الماء الذي بقي على أصل خلقته الطبيعية ولم تُغيّر أحد أوصافه (اللون، أو الطعم، أو الرائحة) مادةٌ طاهرة خارجة عنه. ويُقصد بقولهم “بقي على أصل خلقته” أنه لم يختلط بشيء يُخرجه عن إطلاقه، سواء في مادته أو في صفته.

وقد عرفه جمهور الفقهاء بأنه:

“كل ماء نزل من السماء أو نبع من الأرض ولم يتغير طعمه أو لونه أو رائحته بشيء طاهر أو نجس.”

ويندرج تحت الماء المطلق عدة أنواع، منها:

• ماء المطر

• ماء البحر

• ماء النهر

• ماء الثلج والبرد

• ماء البئر

• ماء العين أو العين الجارية

ويُجمع الفقهاء على أن الماء المطلق هو الصالح للوضوء والغسل ورفع الحدث وإزالة النجاسة، ما دام لم يطرأ عليه تغير يُخرجه عن وصف “المطلق”.

خصائص الماء المطلق

يمتاز الماء المطلق بالصفات التالية:

1. الطهورية: أي أنه طاهر في نفسه ومطهر لغيره، ويصح استعماله في الطهارة الكبرى (الغُسل) والصغرى (الوضوء).

2. عدم التغيير: لا يتغير بطعوم أو ألوان أو روائح أجسام خارجة عنه، كالصابون أو الزعفران أو اللبن أو غيرها.

3. الإطلاق الشرعي: ورد ذكره في القرآن والسنة دون قيد، مثل قوله تعالى:

   ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [النساء: 43]
   
   والمقصود هنا “الماء المطلق” الذي لا تقييد عليه.

4. الشمول والمرونة: يدخل فيه الماء العذب، المالح، البارد، الساخن، ما دام لم يتغير تغيّرًا يُخرجه عن حقيقته كماء.

تعريف الماء المشمّس

الماء المشمّس هو الماء الذي وُضع في إناء وتعَرّض لأشعة الشمس فترة زمنية معينة حتى أصبح دافئًا أو ساخنًا بفعل حرارة الشمس، دون أن يتغير لونه أو طعمه أو رائحته. ويُستخدم غالبًا في الأرياف والمناطق التي تعتمد على أشعة الشمس لتسخين المياه.

وقد ورد ذكر الماء المشمّس في كتب الفقه، خاصة عند فقهاء المذهب الشافعي، الذين اعتنوا بذكر الأحكام المتعلقة به من حيث الكراهة لا الطهورية.

الفرق بين الماء المطلق والماء المشمّس من حيث الأحكام الشرعية

أقوال العلماء في الماء المشمّس

اختلف الفقهاء في حكم استعمال الماء المشمّس للطهارة، وبيان ذلك كما يلي:

1. الشافعية: يرون كراهة استعمال الماء المشمّس في الطهارة، بشرط أن يكون قد سُخّن بأشعة الشمس في آنية معدنية، كالإناء النحاسي، وأن يكون ذلك في البلاد الحارة، لأن ذلك قد يؤدي إلى أضرار صحية على الجلد، كما ذكر الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب”.

2. المالكية والحنفية والحنابلة: لا يرون كراهة في استعماله، ما دام لم يتغيّر أحد أوصافه، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأن الكراهة ترتبط بوجود ضرر متيقن، وهو غير موجود غالبًا.

وقد أشار ابن قدامة الحنبلي في “المغني” إلى أن الماء المشمّس طهور ولا يُكره استعماله في الطهارة إلا إن ثبت ضرر صحي مباشر، وهو أمر نادر.

الدليل على الكراهة الصحية عند الشافعية

استند الشافعية في كراهة استعمال الماء المشمّس إلى قاعدة: “درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح”. فقد كان يُعتقد قديمًا أن الماء المشمّس يُحدث أمراضًا جلدية عند استخدامه مباشرة على البدن، خصوصًا إن وُضع في آنية نحاسية ثم سُخّن تحت أشعة الشمس.

وقد ربطوا هذه الكراهة بأسباب طبية، رغم أن الطب الحديث لم يُثبت ضررًا مباشرًا للماء المشمّس، وهو ما جعل بعض المحققين من الشافعية المعاصرين يرون أن الكراهة تزول بزوال العلّة، أي بزوال الظن بالضرر.

الفرق بين الماء المطلق والماء المشمّس من حيث الاستعمال العملي

• الماء المطلق: يُستخدم في كل أنواع الطهارة، ولا يُشترط في استعماله معرفة مصدر تسخينه أو ظروف تخزينه، ما دام لم يُغيّر أحد أوصافه.

• الماء المشمّس: يُستخدم للطهارة كذلك، إلا أن فقهاء الشافعية يُفضّلون تجنبه عندما توجد مياه أخرى غيره، احتياطًا من الضرر المحتمل.

رأي الطب الحديث في الماء المشمّس

أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة أن تعريض المياه لأشعة الشمس لا يُحدث تغيرًا كيميائيًا ضارًا في حال كانت المياه نظيفة والإناء غير سام. بل إن بعض الطرق الصحية الحديثة تعتمد على تعقيم المياه عن طريق الشمس، وتُعرف هذه التقنية باسم Solar Water Disinfection (SODIS)، وتعتمدها منظمة الصحة العالمية لتعقيم المياه في المناطق الفقيرة.

وبالتالي، فإن ما بُني عليه من كراهة استعمال الماء المشمّس قد يُعتبر غير مُعتد به طبيًا اليوم، إلا إذا كان الإناء يحتوي على معادن قد تتفاعل تحت أشعة الشمس (كالنحاس)، وهو أمر غير شائع اليوم في ظل استخدام البلاستيك والفولاذ المقاوم للصدأ.

تطبيقات فقهية معاصرة

في ضوء الفقه المعاصر، يمكن تلخيص الأحكام كما يلي:

• يجوز استعمال الماء المطلق بكل أنواعه دون كراهة.

• يجوز استعمال الماء المشمّس، وإن وُجد غيره فالأفضل تركه عند من يرى الكراهة، خصوصًا إن تم تسخينه في أوانٍ معدنية.

• لا يُعدّ الماء المشمّس نوعًا مستقلًا بذاته، بل هو فرع من الماء المطلق ما دام لم يتغير.

• الأولوية الشرعية تعطى لما فيه السلامة البدنية، وعليه فإن أي شك في ضرر استعمال نوع من الماء يقتضي تركه.

خلاصة الفرق الجوهرية

• الماء المطلق: أساس الطهارة، صريح في النصوص، لا جدل في طهوريته.

• الماء المشمّس: طهور كذلك، لكن فيه كراهة عند بعض العلماء من باب الاحتياط لا من باب التحريم، وهذه الكراهة مرتبطة بظن ضرر لا وجود له في الغالب في العصر الحديث.

المصادر والمراجع

1. الإمام النووي – المجموع شرح المهذب

2. ابن قدامة – المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل