القوى الفاعلة في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ
تُعدُّ رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ واحدة من أبرز أعماله الأدبية وأكثرها تأثيراً في الأدب العربي الحديث. فقد لاقت إعجاباً واسعاً لما تتسم به من عمق فكري ورؤية فلسفية عن الحياة والمجتمع. ومن بين السمات البارزة في الرواية هي القوى الفاعلة التي تشكِّل ديناميكيات الأحداث وتدفع الشخصيات إلى التحرك والتفاعل مع الواقع المحيط بها.
في هذا المقال، سوف نلقي الضوء على القوى الفاعلة في “اللص والكلاب” وكيف تساهم هذه القوى في بناء وتطوير الحبكة الروائية من خلال تفاعل الشخصيات مع محيطها ومع مواقفها الداخلية. سنستعرض كل من القوى الخارجية، الداخلية، والمجتمعية التي تساهم في تغيير مسار حياة بطل الرواية سعيد مهران، الذي تمثل شخصيته صورة من صور الضياع والتمرد على قيم المجتمع.
1. القوى الداخلية: الصراع النفسي
إن الصراع الداخلي لدى البطل سعيد مهران يمثل قوة فاعلة هامة في الرواية. فقد وجد سعيد نفسه في حالة من التمزق النفسي بعد خروجه من السجن. كان سعيد قد ارتكب جريمة قتل في الماضي ويشعر بأنه ضحية للخيانة من قبل من كانوا يعتبرهم أقرب الناس إليه، لا سيما زوجته (فاطمة) وصديقه (عليش). عندما يخرج من السجن، يتعين عليه مواجهة العالم الذي تغيَّر من حوله، إلى جانب صراعه الداخلي بين رغباته في الانتقام ورغبته في تحقيق العدالة، وكل ذلك يتداخل مع مشاعر العار والإحباط.
سعيد ليس مجرد مجرم هارب، بل شخصية مأساوية تحمل في داخلها تناقضات عميقة. يسعى إلى الثأر لمن أساءوا إليه، لكن مع مرور الوقت، يبدأ في التشكيك في جدوى هذه الانتقامات ومدى صحتها. هذا الصراع النفسي يتصاعد في الأحداث ويعكس معاناة الإنسان الذي لا يجد نفسه في ظل عالم يعمّه الفساد والمصالح الشخصية.
2. القوى الاجتماعية: الهامشية والنظام القمعي
من خلال رواية “اللص والكلاب”، يظهر تأثير القوى الاجتماعية في تشكيل شخصية سعيد مهران. المجتمع الذي ينتمي إليه، والذي عاش فيه طوال حياته، هو مجتمع قاسي وعنيف. العائلة التي خانه فيها كل من حوله (زوجته فاطمة وصديقه عليش) ليست فقط السبب المباشر لغضب سعيد، بل هي أيضاً تمثل الفشل المجتمعي في تقديم نموذج أخلاقي صادق.
يُظهر نجيب محفوظ في هذه الرواية كيف أن المجتمع لا يحسن التعامل مع الأفراد الذين يعانون من التهميش أو الظلم. سعيد مهران هو نموذج واضح لشخصية مهمشة لا تجد لنفسها مكانًا في مجتمع يُغلق الأبواب أمام من لا يلتزمون بالقيم الاجتماعية السائدة. يُنظر إليه كمجرم قبل أن يُنظر إليه كإنسان، وهذه النظرة المجتمعية تشكِّل ضغطاً نفسياً عليه وتدفعه نحو المزيد من العنف.
تنعكس هذه القوى الاجتماعية في نظرة المجتمع القاسية تجاه سعيد مهران، خاصة حينما يشعر بأنه محاط بمؤامرات واعتداءات من شخصيات أخرى. هذا الرفض المجتمعي يصبح أحد القوى التي تدفعه للتمرد، ليصبح أكثر عزلة عن العالم من حوله.
3. القوى الاقتصادية: الحاجة والفساد
لا يمكن النظر إلى القوى الفاعلة في “اللص والكلاب” دون أخذ الاقتصاد بعين الاعتبار. يظهر الفساد الاقتصادي في الرواية من خلال تعاملات الشخصيات الرئيسية في الرواية، وخاصة في شخصيات مثل عليش الذي يمثل البرجوازية المافيوية المتورطة في السرقة والغش.
سعيد مهران كان ضحية للنظام الاقتصادي الذي سلبه حقوقه وأدى به إلى السجن. ولدى خروجه، أصبح في موقف ضعيف للغاية حيث لا يملك شيئاً سوى نفسه ورغبة الانتقام. يمثل هذا التفاوت الطبقي والفقر المدقع الذي عانى منه سعيد قوة فاعلة أساسية في تحديد سلوكه. المال والموارد الاقتصادية لم تكن أبداً في متناول يديه، ما جعل من السهل على الشخصيات الأخرى استغلاله، سواء من خلال بيع الوهم أو خداعه.
4. القوى النفسية: الخيانة والرغبة في الانتقام
تعتبر الخيانة من أقوى القوى الفاعلة في “اللص والكلاب”. سعيد مهران لا يقتصر على الشعور بالخيانة من قبل من كان يعتبرهم أصدقائه وأحبائه، بل يخون نفسه أيضاً عندما يقرر السعي للانتقام بشكل أعمى دون أن يفكر في العواقب. هذه القوة النفسية تدفعه إلى القيام بأعمال العنف التي لا تجلب له سوى المزيد من التورط في مشاكل أكبر.
إن الرغبة في الانتقام تعمي بصيرته وتجعله يسير في مسار يؤدي به إلى المزيد من العزلة والدمار الشخصي. كما أن خيانة الزوجة فاطمة وصديقه عليش تركت في نفسه جرحًا عميقًا لا يلتئم، مما يجعل الشخصية غير قادرة على بناء أي نوع من العلاقات المستقرة أو الثقة بأي شخص آخر. هذا الصراع النفسي بين الانتقام والخيانة يعكس التوتر الذي يعيشه سعيد في محاولته لإيجاد معنى أو هدف لحياته بعد السجن.
5. القوى السياسية: النظام والقانون
على الرغم من أن القوى السياسية لا تظهر بشكل مباشر في الرواية، إلا أن النظام الاجتماعي والقانوني يظل أحد القوى الفاعلة غير المباشرة. فالنظام القضائي الذي ألقى القبض على سعيد مهران كان قد فرض عليه عقوبة السجن، وهو ما جعل سعيد يرى النظام كأداة قمعية تعاقب على الأخطاء الصغيرة بينما تتيح للفساد أن يستشري في مفاصل الدولة.
في حين يظهر في الرواية دور الشرطة والنظام القضائي بشكل مقيَّد، إلا أن هذا النظام يظل في خلفية الأحداث باعتباره القوة المهيمنة التي لا يستطيع سعيد الهروب منها. فقد نشأ في ظل هذا النظام، وعليه أن يواجه تداعياته على الرغم من شعوره بالعجز أمامه.
6. القوى الدينية: التصوف والتوبة
من القوى الفاعلة في الرواية أيضًا القوة الدينية التي تتجسد في شخصية الشيخ الذي يعترض سعيد مهران. يسعى سعيد في البداية إلى الانتقام دون رحمة، لكن مع مرور الوقت، يبدأ في التفاعل مع المفاهيم الدينية والتصوف، خاصة بعد أن يجد نفسه في مواجهة مع الذات. هذا التفاعل مع الدين يظهر بعد السقوط المروع في مشهد النهاية، حيث يُظهر سعيد مهران كيف أن الإيمان قد يساهم في تصحيح المسار رغم كل ما مر به.
خلال رحلته، يتعامل مع الدين كمنفذ أخير يبحث من خلاله عن التوبة والنجاة. لكن هذا لا يمنعه من المضي قدماً في انتقامه، مما يطرح تساؤلات فلسفية حول حدود التوبة والقدرة على تغيير النفس.
خاتمة
في “اللص والكلاب”، يتفاعل العديد من القوى الفاعلة التي تُشكِّل حياة بطل الرواية، سعيد مهران. تتنوع هذه القوى بين قوى داخلية تتعلق بالصراع النفسي، وقوى اجتماعية تعكس التهميش والقسوة المجتمعية، وقوى اقتصادية تُظهر التفاوت الطبقي والفقر المدقع. كما أن القوى الدينية والنفسية كانت عوامل محورية في توجيه سلوك الشخصية.
وبذلك، تكون هذه القوى هي المحرك الأساسي في رحلة سعيد مهران المأساوية التي تتخللها لحظات من الخيانة، التمرد، والندم.
