الفطرة في الإسلام: مفهومها وأثرها

الفطرة: مفهومها وأبعادها في الفكر الإسلامي

الفطرة هي أحد المفاهيم التي حظيت باهتمام كبير في الفكر الإسلامي، حيث يُنظر إليها على أنها الجبلّة أو الطبيعة التي فُطر عليها الإنسان منذ نشأته. يمكن اعتبار الفطرة في الإسلام بمثابة الأساس الذي بُنيت عليه حياة الإنسان منذ ولادته، إذ إنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبراءة التي يأتي بها المرء إلى الدنيا، وتحمل في طياتها مجموعة من المبادئ الطبيعية التي تُمكنه من التفاعل مع محيطه وفهمه. الفطرة ليست مجرد حالة فطرية عابرة، بل هي تعبير عن الدين الذي يختزن في ذاته انطلاقة الإنسان الأولى نحو معرفة الحقيقة والميل إلى ما هو طيب وسليم.

تعد الفطرة واحدة من المفاهيم الأساسية التي تتعدد تفسيراتها بين الفلاسفة والمفكرين الدينيين، إلا أن الإسلام قد أكّد على أن الفطرة هي المسار الذي يُرشد الإنسان إلى التوحيد والعدل والمثالية في العلاقة مع الله ومع الناس. وسنعرض في هذا المقال العديد من جوانب هذا المفهوم ودلالاته الفقهية والفلسفية.

1. الفطرة في القرآن الكريم

الفطرة في القرآن الكريم تمثل حالة من الاستقامة الطبيعية التي خُلق عليها الإنسان. وقد ورد في القرآن في أكثر من موضع، وتحديدا في قوله تعالى: “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” (الروم: 30). هذه الآية تشير إلى أن الإنسان خُلق بفطرة مستقيمة، فطرتها تُعرف من خلال الإحساس الداخلي بالحق والباطل، والتمييز بين الخير والشر، والانجذاب الطبيعي نحو العبادة والتوحيد.

وبذلك، تتجلى الفطرة في القرآن على أنها نوع من الاستعداد الطبيعي الذي أودعه الله في الإنسان منذ البداية، حيث تحكم هذه الفطرة جميع تصرفات الإنسان وتوجهه نحو إعلاء المبادئ السامية مثل العدالة والأمانة.

2. الفطرة والتوحيد

في السياق الديني، ترتبط الفطرة ارتباطاً وثيقاً بفهم الإنسان لله كأحد مفاهيمه الأساسية. فالتوحيد، الذي يعتبر من أهم ركائز العقيدة الإسلامية، ينبثق من الفطرة التي تُمكّن الإنسان من إدراك وجود الله عز وجل. إن هذا الارتباط بين الفطرة والتوحيد يمثل الدعوة الكبرى التي تحث الإنسان على توجيه حياته نحو الله، والابتعاد عن التعددية والمعتقدات الفاسدة التي تبتعد عن جوهر التوحيد.

وقد ورد في الحديث النبوي الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “كل مولود يُولد على الفطرة”، أي أن الإنسان يولد على الإيمان الطبيعي الذي يُمكّنه من معرفة ربه واستشعار عزته، ولكن ما يعكر صفو هذه الفطرة هو تأثير المجتمع والتربية السيئة التي قد تدفعه للانحراف عن هذه الاستقامة الطبيعية.

3. الفطرة والإنسانية

الفطرة ليست محصورة في الإنسان المسلم فقط، بل هي جزء من طبيعة الإنسان بشكل عام. ومن هنا، يمكن فهم تفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة به ومع الآخرين استناداً إلى فطرته التي تدعوه إلى تبني القيم الإنسانية مثل الرحمة والتعاون، وهي ما تعتبر صفات طبيعية وراسخة في الإنسان.

وفي هذا الإطار، يمكن القول أن الفطرة الإسلامية تتيح للإنسان الوصول إلى مراتب عالية من الكمال الإنساني، من خلال تنقيته من الشوائب النفسية والروحية، وبالتالي عيش حياته وفقاً للمعايير التي وضعها الله عز وجل في خلقه.

4. الفطرة والمفاهيم الأخلاقية

تعد الفطرة أساسًا للأخلاق الإسلامية السامية التي تحث الإنسان على اتباع معايير الحق والعدل. يُعتبر أن كل إنسان لديه إحساس داخلي بالفطرة التي توجهه نحو البر والعمل الصالح. فالفطرة الإسلامية تدعونا إلى الامتناع عن الظلم، والتسامح مع الآخرين، والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه.

إن الفطرة هي التي تمكّن الإنسان من الشعور بالذنب عند ارتكاب الخطأ، وهو ما يُعتبر من مظاهر الأخلاق الحميدة في الإسلام. بالإضافة إلى ذلك، فهي تمنحه القدرة على التوبة والرجوع إلى الله، مما يعزز الشعور بالسلام الداخلي والطمأنينة النفسية.

5. الفطرة والاختلافات الثقافية والدينية

مع أن الفطرة واحدة لجميع البشر، إلا أن تأثيرات الثقافات المختلفة يمكن أن تُغير من فهم الأفراد لها. ففي المجتمعات التي تعيش في بيئات صحية ومتوازنة، تظل الفطرة أكثر وضوحاً. بينما في المجتمعات التي قد تعاني من النزاعات أو التأثيرات الضارة، قد تتأثر الفطرة وتُصبح عرضة للتحريف.

وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نفهم لماذا يختلف تصرف الأفراد في بعض الأحيان عن الفطرة السليمة، إذ يتأثرون بالبيئة الاجتماعية والدينية التي نشأوا فيها. إلا أن الفطرة تظل قائمة كدليل داخلي يمكن أن يُرشد الإنسان إلى الحقيقة، حتى وإن ابتعد عن هذه الحقيقة في بعض الأوقات.

6. الفطرة وعلاقة الإنسان بالكون

تتعدى الفطرة العلاقة بين الإنسان والله، لتشمل العلاقة بين الإنسان وكل شيء في الكون. الفطرة توصل الإنسان إلى فهم عميق لمكانه في الكون، وعلاقته بالأرض والكائنات الأخرى. هذه العلاقة تؤثر في سلوك الإنسان تجاه البيئة، فكلما كان الإنسان في انسجام مع فطرته، كلما زاد احترامه للأرض والبيئة التي يعيش فيها.

إن الفطرة لا تدعو فقط إلى علاقة فردية مع الله، ولكن أيضًا إلى علاقة تعاونية وسلمية مع باقي مخلوقات الله. وعندما يعيش الإنسان وفق فطرته، يصبح أكثر قدرة على العيش بتوازن مع محيطه الطبيعي والاجتماعي.

7. الفطرة والتربية الإسلامية

تولي التربية الإسلامية اهتماماً بالغاً للفطرة، إذ تهدف إلى صقلها وتنميتها بشكل يتماشى مع القيم الدينية. تبدأ هذه التربية من مرحلة الطفولة، حيث يتم توجيه الطفل وتوجيهه نحو الأخلاق الفاضلة والتعاليم الدينية، بما يتناسب مع فطرته السليمة.

من خلال التربية الإسلامية، يتم تأكيد مفهوم العدل والمساواة، وتحفيز الأفراد على التفاعل الإيجابي مع بعضهم البعض، بناءً على ما تمليه الفطرة من رغبة في التعاون والتعايش السلمي. الفطرة هنا هي الأساس الذي يتم البناء عليه، وبدون العناية بها، قد ينحرف الأفراد عن الطريق السليم.

8. الفطرة والتحديات المعاصرة

على الرغم من أن الفطرة تُعتبر مكونًا أساسيًا للإنسان، إلا أن التحديات المعاصرة مثل العولمة والتكنولوجيا قد أوجدت بيئات قد تؤثر سلبًا على الفطرة. فقد يعيش الإنسان في عصر يواجه فيه الكثير من الضغوط النفسية والاجتماعية، مما قد يؤدي إلى تدهور في فهمه لقيمه الفطرية.

ومع هذا، تظل الفطرة أصلًا ثابتًا، ويمكن للإنسان أن يعود إليها دائمًا، خاصة إذا عمل على تعزيز تواصله الروحي مع الله واستجابته لما توجبه عليه فطرته في حياته اليومية.