هل سمات البشر ومواهبهم فطرية أم مكتسبة؟

تُعَدّ مسألة ما إذا كانت السمات البشرية والمواهب فطرية أم مكتسبة من بين أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة للجدل في مجالات علم النفس، التربية، وعلم الأعصاب. منذ العصور القديمة وحتى العصر الحديث، انشغل الفلاسفة والعلماء في محاولة فهم الطبيعة البشرية: هل يولد الإنسان مزودًا بمجموعة من القدرات والخصائص التي تحدد مساره منذ ولادته، أم أن البيئة والتجربة والتعليم هم ما يُشكّلون شخصيته ومواهبه؟ هذا السؤال المركزي – الذي يمكن تلخيصه في الجدل الشهير “الفطرة أم الاكتساب” – يمثل صلب فهمنا لما يعنيه أن يكون الإنسان إنسانًا، ولما يعنيه أن نكون مبدعين، عباقرة، موهوبين، طيبين أو حتى عدوانيين.

في هذا المقال الموسع، سيتم تحليل أبعاد هذا الموضوع من الزوايا النفسية، العصبية، التربوية، والاجتماعية، مع التركيز على الأدلة العلمية والدراسات الحديثة، لتقديم رؤية متكاملة وشاملة حول طبيعة السمات البشرية والمواهب، وما إذا كانت تنبع من الفطرة أم من البيئة.

أولاً: الفطرة – الوراثة والجينات

يُقصد بالفطرة ما يولد به الإنسان من قدرات وميول وصفات، وتُعزى هذه إلى الشيفرة الوراثية التي يحملها كل فرد. يتكون الحمض النووي البشري (DNA) من حوالي 20,000 جين يُشاركون في تنظيم نمو الجسم ووظائفه، وقد كشفت الدراسات الجينية أن هناك سمات معينة، مثل الذكاء، والمزاج، وحتى بعض الاضطرابات النفسية، ترتبط بتسلسل جيني معين.

على سبيل المثال، بينت دراسات التوائم المتطابقة – الذين يشتركون في 100% من الجينات – أن هناك تشابهًا كبيرًا بينهم في السمات الشخصية ومستويات الذكاء، حتى لو نشأوا في بيئات مختلفة. وتوصلت دراسات عدة إلى أن الوراثة تفسّر بين 40 إلى 60% من التفاوت في مستوى الذكاء بين الأفراد، ما يدل على أن هناك أساسًا جينيًا قويًا لبعض القدرات العقلية.

وبالإضافة إلى الذكاء، أظهرت دراسات أخرى أن الميل إلى الإبداع أو الحس الموسيقي أو حتى المهارات الميكانيكية قد تكون موروثة جزئيًا، إذ وُجدت اختلافات في بنية الدماغ ووظائفه ترتبط مباشرة بنشاطات معينة تميّز الموهوبين في مجالات فنية أو رياضية.

جدير بالذكر أن السمات الانفعالية مثل الميل إلى القلق، أو التفاؤل، أو العصبية، ترتبط هي الأخرى بنشاط مناطق محددة في الدماغ، يتأثر تطورها بالبنية الجينية.

ثانيًا: الاكتساب – دور البيئة والخبرة والتعليم

رغم أهمية العوامل الوراثية، فإن البيئة تلعب دورًا لا يقل أهمية في تشكيل السمات والمواهب. فالعقل البشري يتمتع بمرونة كبيرة تُعرف باسم “المرونة العصبية” (Neuroplasticity)، وهي قدرة الدماغ على التغير وإعادة تشكيل نفسه استجابة للتجارب والتعليم والتدريب.

يبدأ دور البيئة منذ لحظة الولادة، بل حتى قبلها، إذ أن التغذية، والصحة العامة للأم، والتجارب الحسية التي يتعرض لها الجنين داخل الرحم، تؤثر على تطور الجهاز العصبي. بعد الولادة، يتأثر نمو الدماغ بشكل كبير بنوعية الرعاية، مستوى التحفيز المعرفي، نوعية اللغة المسموعة، والمستوى الاجتماعي والاقتصادي.

مثال بارز على قوة الاكتساب هو ما يسمى بـ”تأثير بيئة التعلم الغنية”، حيث أظهرت التجارب أن الأطفال الذين يتعرضون لتعليم عالي الجودة في سن مبكرة يحققون تطورًا إدراكيًا وعاطفيًا أعلى من أقرانهم في بيئات فقيرة معرفيًا. كما أن ممارسة التمارين الذهنية – مثل تعلم العزف على آلة موسيقية أو التحدث بلغة جديدة – يؤدي إلى تغييرات ملموسة في بنية الدماغ.

تشير أدبيات علم النفس التربوي إلى أن المثابرة والتدريب الطويل والمركّز يمكن أن يطورا المواهب إلى مستويات احترافية. ففي دراسة شهيرة للعالم “أندرس إريكسون”، تبين أن الخبرة المتقنة تأتي غالبًا من “الممارسة المتعمّدة” المكثفة وليس فقط من الموهبة الفطرية. وبهذا المعنى، يمكن للبيئة أن تُطلق الإمكانات الكامنة وتطوّرها إلى تفوق ملموس.

ثالثًا: التفاعل بين الفطرة والاكتساب

النقطة الأساسية التي يتفق عليها معظم الباحثين اليوم هي أن الفصل التام بين الفطرة والاكتساب غير دقيق، بل إن التفاعل بينهما هو الذي يُنتج الخصائص البشرية المعقدة. الجينات تُحدد القابلية، أما البيئة فتحدد مدى تفعيل هذه القابلية.

في علم الوراثة السلوكي، يُستخدم مصطلح “القابلية الجينية” (Genetic Predisposition) للإشارة إلى أن بعض الأفراد يكونون أكثر استعدادًا بيولوجيًا لتطوير مهارة أو سلوك معين، لكن هذا لا يعني أنهم سيطورونه بالضرورة. البيئة هي التي توفّر الظروف الضرورية لتفعيل هذا الاستعداد أو تثبيطه.

على سبيل المثال، قد يرث طفل قابلية للموهبة الرياضية، لكن دون تدريب أو دعم أو ظروف صحية جيدة، فإن هذه الموهبة قد تظل كامنة وغير مُفعّلة. في المقابل، يمكن لطفل لا يمتلك تلك القابلية العالية أن يصبح رياضيًا ممتازًا من خلال تدريب مكثف ومثابرة.

وقد طُوّرت نماذج علمية لشرح هذا التفاعل، مثل نموذج “الاستعداد والضغط” (Diathesis-Stress Model)، الذي يوضح أن السلوك البشري نتيجة لتفاعل بين استعداد وراثي وضغوط بيئية. فحتى الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب أو الفصام، لا تظهر إلا إذا اجتمع الاستعداد الوراثي مع بيئة ضاغطة أو صادمة.

رابعًا: الذكاء والموهبة – بين الفطري والمكتسب

يُعد الذكاء أحد أبرز السمات التي أُجري حولها نقاش طويل بين أنصار الفطرة وأنصار الاكتساب. فيما مضى، كان يُعتقد أن الذكاء قدرة ثابتة يمكن قياسها من خلال اختبارات IQ، لكن الدراسات الحديثة أظهرت أن الذكاء مفهوم متعدد الأبعاد، ويشمل ذكاءً لغويًا، منطقيًا، اجتماعيًا، حركيًا، بصريًا مكانيًا، وغيرها.

وقد بيّنت أبحاث “هاوارد جاردنر” حول الذكاءات المتعددة أن الأفراد قد يظهرون ذكاءً في مجالات لا تقيسها اختبارات الذكاء التقليدية. بعض هذه الذكاءات قد يكون ناتجًا عن بيئة غنية ومحفزة، مما يشير إلى الدور الهائل للتجربة والتنشئة.

وفي ما يخص الموهبة، فإن النماذج المعاصرة، مثل نموذج “روبرت ستيرنبرغ”، تفرق بين الموهبة الخام والموهبة المُفعّلة، بحيث تكون الموهبة الفطرية مجرد بداية، لكنها تحتاج إلى صقل وتوجيه وتدريب مستمر كي تتحول إلى تفوق فعلي.

خامسًا: تأثير الثقافة والمجتمع

لا يمكن إغفال تأثير الثقافة والمجتمع في صياغة السمات والمواهب. فالمجتمعات المختلفة تقيّم أنواعًا معينة من المواهب وتُهمل أخرى، كما تشجع على سلوكيات معينة وتُثبط أخرى. هذه التقييمات تؤثر بشكل مباشر في تفعيل أو كبت الإمكانات البشرية.

فعلى سبيل المثال، في بعض الثقافات يتم تشجيع الأطفال على التعبير عن الذات منذ سن مبكرة، مما يطوّر لديهم ذكاءً اجتماعيًا وقدرات لغوية متميزة. في المقابل، قد تنشئ بيئات أخرى تُركّز على الطاعة والانضباط، ما يؤدي إلى نمو سلوكيات مختلفة تمامًا.

كذلك، تلعب المعايير الاجتماعية والمعتقدات الثقافية دورًا في تحديد ما إذا كان الفرد يرى نفسه “موهوبًا” أو “قادرًا على التعلّم”، ما يُعرف في علم النفس بمفهوم “العقلية الثابتة مقابل العقلية النامية” (Fixed vs. Growth Mindset) الذي طوّرته الباحثة كارول دويك. فالفرد الذي يعتقد أن قدراته قابلة للتطور يكون أكثر قابلية لتحقيق نمو حقيقي مقارنة بمن يؤمن بأن المواهب قدر محتوم لا يمكن تغييره.

سادسًا: الأدلة العصبية والتطور العلمي

التطورات في علوم الأعصاب قدّمت فهمًا أعمق لطبيعة السمات والمواهب. التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) سمح بملاحظة النشاط الدماغي خلال أداء مهام محددة، وأظهر أن التدريب المكثف يغيّر حرفيًا من بنية الدماغ ووظائفه.

على سبيل المثال، أظهرت دراسات أن أدمغة الموسيقيين المحترفين تختلف في مناطق معينة عن غير الموسيقيين، وأن هذه الفروقات ليست موروثة بالكامل بل ناتجة عن سنوات من التدريب اليومي. كما أن تعلم لغة جديدة أو ممارسة مهارات جديدة يساهم في تعزيز التوصيلات العصبية وتوسيع مناطق معينة في الدماغ.

هذه الأدلة تؤكد على أن الدماغ البشري كيان ديناميكي يتغير باستمرار، وأن “القدرات” ليست جدرانًا ثابتة، بل شبكات يمكن تعديلها وتوسيعها.

جدول: مقارنة بين السمات الفطرية والمكتسبة

خاتمة تحليلية

لا يمكن حسم النقاش حول ما إذا كانت السمات البشرية والمواهب فطرية أم مكتسبة بجواب قاطع، لأن الحقيقة تكمن في تداخل العنصرين بشكل لا يمكن فصله. الوراثة توفّر البذور، لكن البيئة هي من يزرع ويروي ويحصد. وكل إنسان يحمل في داخله مزيجًا فريدًا من الجينات والخبرات، ما يجعله كيانًا غير قابل للاستنساخ.

الفهم العميق لهذه العلاقة المعقدة يُمكّن المجتمعات من تحسين سياساتها التربوية، ويوفّر أرضية صلبة لتقدير التنوع البشري، كما يُعزز من إيمان الفرد بقدرته على التطور والنمو، مهما كانت انطلاقته البيولوجية.

المراجع:

1. Plomin, R., & Asbury, K. (2005). Nature and Nurture: Genetic and Environmental Influences on Behavior. Wiley.

2. Dweck, C. S. (2006). Mindset: The New Psychology of Success. Random House.