الفرق بين الحضارة السومرية والبابلية
تعدّ الحضارات القديمة من أبرز العناصر التي شكلت معالم التاريخ البشري، ومن بين تلك الحضارات تبرز الحضارتان السومرية والبابلية اللتان نشأتا في منطقة ما بين النهرين (التي تعرف اليوم بالعراق)، والتي كانت في العصور القديمة تُعرف بأنها “مهد الحضارة”. إذ تمثل كل من الحضارة السومرية والبابلية مرحلة هامة في تاريخ الإنسانية، وقد أثرتا بشكل كبير على مختلف جوانب الحياة البشرية من حيث الدين، والفن، والقانون، والسياسة، والتجارة. ورغم أن هاتين الحضارتين نشأتا في نفس المنطقة الجغرافية، إلا أنهما كانتا تختلفان في عدة جوانب، سواء في الأسس الثقافية أو في نمط الحكم أو حتى في الإنجازات التي أحرزتها كل منهما.
1. الجغرافيا والنشأة
1.1 الحضارة السومرية
تعتبر السومرية أقدم حضارة عرفها التاريخ البشري، حيث نشأت في جنوبي بلاد الرافدين حوالي العام 3000 ق.م. وقد استقر السومريون في المنطقة المعروفة اليوم بجنوب العراق، في بلاد الرافدين، بين نهري دجلة والفرات. كانت السومرية تمثل أول تجربة للبشر في تكوين مجتمع معقد تنظيميًا، وقد أسسوا العديد من المدن التي كانت تعتبر مراكز حضارية مثل “أور” و”إريدو” و”لكش”. تميزت هذه الحضارة بتطور كبير في مختلف المجالات، مثل الكتابة والأنظمة القانونية والعلمية.
1.2 الحضارة البابلية
ظهرت الحضارة البابلية بعد السومرية في نفس المنطقة تقريبًا، إلا أنها ازدهرت في فترة لاحقة، تحديدًا في الألفية الثانية قبل الميلاد، بعد انهيار الحضارة السومرية. يُعتبر البابليون جزءًا من الحضارة السومرية في بداياتهم، ولكنهم قاموا بتطوير وتحسين النظام السومري بما يتناسب مع تطلعاتهم وأهدافهم السياسية. كانت “بابل” هي عاصمة هذه الحضارة، وهي مدينة عظيمة تتوسط العراق الحديث. ومن أبرز حكامها كان الملك حمورابي الذي اشتهر بتشريعاته القانونية.
2. الأنظمة السياسية والإدارية
2.1 النظام السياسي السومري
كان السومريون أول من ابتكر نظام المدن-الدولة، حيث كانت كل مدينة تدير شؤونها بشكل مستقل ولكن تحت إشراف ملك أو “عظيم”. يُعتبر النظام السومري سياسيًا ذا طابع ديني في البداية، حيث كان الملوك يُعتبرون ممثلين للآلهة على الأرض. وتُعتبر المؤسسات الدينية جزءًا أساسيًا من النظام السومري، حيث كانت المعابد تُعتبر مراكز السلطة الدينية والسياسية في آن واحد.
2.2 النظام السياسي البابلي
على الرغم من أن البابلين ورثوا العديد من خصائص النظام السومري، إلا أن النظام السياسي لديهم كان أكثر تركيزًا على السلطة المركزية. كان الملك البابلي، خاصة في عهد حمورابي، يتمتع بسلطة هائلة وارتبط حكمه بوضع قوانين صارمة تهدف إلى تنظيم الحياة الاجتماعية. كما أن الحكومة البابلية كانت تعتمد على تطبيق القضاء العادل من خلال مجموعة من القوانين المدونة، وهي “قانون حمورابي” الذي يعتبر من أقدم القوانين المكتوبة.
3. الديانة والمعتقدات
3.1 الدين السومري
كان الدين السومري قائمًا على تعدد الآلهة، حيث كانت هناك آلهة مخصصة لكل جانب من جوانب الحياة مثل الزراعة، والحرب، والماء، والموت. وكان السومريون يؤمنون بعلاقة وثيقة بين الإنسان والآلهة، وكان لكل مدينة معبد خاص يخصص لها إله حامي. من أشهر آلهتهم كان الإله “إنكي” إله المياه والحكمة، والإلهة “إنانا” التي كانت تمثل الحب والجمال والحرب.
3.2 الدين البابلي
كانت الديانة البابلية مشابهة إلى حد كبير للديانة السومرية في جوهرها، حيث تبنت البابلية تعدد الآلهة أيضًا. ومع ذلك، بدأت تظهر بعض الاختلافات في الآلهة المركزية، حيث كان الإله “مردوخ” هو الإله الرئيسي في بابل. تم اعتبار مردوخ إلهًا للحكمة والخلق، وكان يتم عبادته في معبد إيزاجيل في بابل. في المقابل، كان البابليون يؤمنون بوجود علاقة قوية بين الملك والإله، حيث كان الملك البابلي يُعتبر ممثلًا لمردوخ على الأرض.
4. الإنجازات العلمية والثقافية
4.1 الإنجازات السومرية
كانت السومرية رائدة في العديد من المجالات العلمية والثقافية. ففي مجال الكتابة، اخترع السومريون الكتابة المسمارية على الألواح الطينية، وهو ما يُعتبر أقدم نوع من الكتابة. كما قاموا بتطوير التقويم القمري، وحساب الوقت، والفلك. كما أن السومريين كانوا خبراء في الزراعة والري، حيث ابتكروا نظم الري المعقدة التي مكنت من استصلاح الأراضي في منطقة دجلة والفرات.
4.2 الإنجازات البابلية
حافظت البابلية على العديد من الإنجازات السومرية، لكنها أضافت إليها العديد من التطورات. كان البابليون متقدمين في الرياضيات والفلك، حيث طوروا نظام العد الستيني الذي لا يزال يستخدم في قياس الوقت والزوايا. ومن أبرز إنجازاتهم كانت “قاعدة حمورابي” التي جمعت جميع القوانين في نص واحد مدون على حجر، وقد شكلت هذه القوانين أساسًا للأنظمة القانونية الحديثة. كما أن البابليين ساهموا في تطور الطب والفلك من خلال دراستهم الكواكب والأجرام السماوية.
5. الفنون والهندسة المعمارية
5.1 الفنون السومرية
كانت الفنون السومرية تعكس التطور الكبير في المجتمع السومري. من أشهر المعالم الفنية السومرية هو “قناع الملك غوديا”، الذي يُعد من أروع المنحوتات البرونزية. كما اشتهر السومريون بصناعة الأختام الأسطوانية التي كانت تُستخدم للطباعة على الطين. في مجال العمارة، ابتكروا “الزقورات” التي هي معابد ضخمة على شكل هرم، وقد كانت هذه المعابد رمزًا للوحدة بين السماء والأرض.
5.2 الفنون البابلية
استفادت بابل من الفنون السومرية، لكنها أضافت لمساتها الخاصة في الفن والعمارة. كان البابليون مشهورين ببناء “حدائق بابل المعلقة”، التي تعد إحدى عجائب العالم السبع. كما قاموا ببناء أسوار ضخمة حول المدينة، بما في ذلك “بوابة إيساجيلا” التي كانت مزخرفة برموز دينية. في مجال الفن، كان البابليون مهتمين بالتماثيل والنحت، وقد تم اكتشاف العديد من التماثيل المنحوتة على الطين والبرونز التي تمثل الآلهة والحكام.
6. التدهور والانهيار
6.1 انهيار الحضارة السومرية
رغم كونها واحدة من أقدم وأهم الحضارات في التاريخ، إلا أن السومرية بدأت تعاني من ضعف داخلي بسبب الغزوات الخارجية والصراعات المستمرة بين المدن-الدولة. وقد أدى هذا إلى انكماش وتفكك الحضارة السومرية لصالح تمدد الحضارات الأخرى مثل الأكاديين.
6.2 انهيار الحضارة البابلية
أما بابل، فقد شهدت انكماشًا وضعفًا تدريجيًا مع غزوات الميديين والفرس. في النهاية، تمكن الفرس من تدمير بابل في عام 539 ق.م. بعد فترة من الهيمنة الفارسية على المنطقة.
7. الاستنتاج
في حين أن الحضارتين السومرية والبابلية نشأتا في نفس المنطقة، فقد اختلفت كل منهما في العديد من الجوانب من حيث الأنظمة السياسية، الديانة، الإنجازات الثقافية، والعلمية. ومع ذلك، فإن تأثير كل من الحضارتين على تاريخ البشرية لا يُقاس، فقد شكلتا الأسس التي ارتكزت عليها العديد من الحضارات اللاحقة في المنطقة والعالم.
