الفجيعة: الحزن على فقدان من تحب

مقدمة

يُعدّ فقدان الأحبة من أعظم الابتلاءات التي يمكن أن يمر بها الإنسان خلال حياته. فالفجيعة ليست مجرد شعور عابر بالحزن، بل هي تجربة وجدانية عميقة تعصف بالروح والعقل، وتترك آثاراً نفسية وجسدية تمتد لفترات طويلة، قد تطول لسنوات. عندما يفقد الإنسان شخصاً قريباً من قلبه، سواء أكان أحد الوالدين، شريك حياة، صديقاً حميماً، أو حتى طفلاً، فإن الواقع يتغير جذرياً، وتتحول الحياة إلى مسرح من الذكريات والحنين والفراغ.

في هذا المقال، سيتم تناول مفهوم الفجيعة من زوايا متعددة، بداية من التعريف العلمي والنفسي لها، مروراً بمراحل الحزن، ووصولاً إلى التأثيرات التي تُحدثها الفجيعة في الجسد والعقل والعلاقات الاجتماعية. كما سيتم التطرق إلى كيفية التعامل مع الفقد وتدبير الألم العاطفي بطريقة صحية، مع الإشارة إلى البُعد الثقافي والديني للفجيعة، والممارسات المتبعة في التعامل مع الحداد.

مفهوم الفجيعة

الفجيعة (Grief) تُعرّف بأنها ردّة فعل طبيعية وصحية تجاه الفقدان العاطفي العميق، وغالباً ما تكون ناتجة عن موت شخص عزيز. ولكنها لا تقتصر على الموت فقط، فقد تحدث الفجيعة أيضاً عند انتهاء علاقة عاطفية، أو فقدان حلم، أو خسارة وظيفة ذات قيمة وجدانية. إلا أن الفجيعة المرتبطة بالموت هي الأشد تأثيراً وامتداداً.

علم النفس يرى الفجيعة كمزيج من المشاعر المركبة التي تشمل الحزن، الإنكار، الغضب، الذنب، وأحياناً حتى مشاعر الارتياح والطمأنينة في حالات معينة. إنها تجربة داخلية فريدة، لا تتكرر بنفس الصورة بين شخص وآخر، ولا يمكن اختزالها في إطار زمني أو نمط محدد.

مراحل الفجيعة النفسية

قدّمت الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس نموذجاً شهيراً لمراحل الحزن في كتابها “حول الموت والاحتضار” (1969)، والذي لا يزال يُستخدم حتى اليوم كأساس لفهم الفجيعة. يشمل هذا النموذج خمس مراحل رئيسية:

1. الإنكار (Denial)

تبدأ الفجيعة غالباً بمرحلة الإنكار، حيث يرفض العقل الباطن قبول حقيقة الفقد. قد يشعر الشخص بأن ما حدث مجرد كابوس أو وهم، ويستمر في انتظار رجوع من رحل. هذا الإنكار يعمل كآلية دفاعية لتقليل الصدمة الفورية.

2. الغضب (Anger)

مع بدء إدراك الواقع، يظهر الغضب كمرحلة تالية. قد يكون موجهاً نحو الذات، الأطباء، القدر، أو حتى الشخص المتوفى. يطرح العقل أسئلة عن الظلم والعدالة، ويبحث عن تفسير منطقي لما لا يمكن تفسيره.

3. المساومة (Bargaining)

في هذه المرحلة، يحاول الشخص إبرام “اتفاقات خيالية” مع الله أو القدر في محاولة لإرجاع الفقد، مثل: “لو عاد فقط، سأصبح شخصاً أفضل”. إنها محاولة للهروب من الألم عبر افتراض حلول غير واقعية.

4. الاكتئاب (Depression)

يدخل الشخص في مرحلة من الحزن العميق والانطواء، حيث يتوقف عن محاولات الإنكار أو الغضب، ويواجه الألم وجهاً لوجه. قد يصاحب هذه المرحلة شعور بالوهن الجسدي، فقدان الشهية، الأرق، ونوبات من البكاء.

5. القبول (Acceptance)

في النهاية، يصل الفرد إلى مرحلة من التقبل، حيث يبدأ بإعادة بناء حياته، مع الإقرار بحقيقة الفقد دون إنكار أو تمرد. لا تعني هذه المرحلة نسيان المتوفى، بل تعني التكيف مع الواقع الجديد.

التأثيرات النفسية والجسدية للفجيعة

الفجيعة تترك أثراً لا يمحى في النفس البشرية، وتتجلى آثارها على عدة مستويات:

التأثيرات النفسية:

• اضطرابات القلق والاكتئاب: الأشخاص المفجوعون غالباً ما يعانون من أعراض نفسية مزمنة مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم.

• الكوابيس واسترجاع الذكريات: يعاني الكثير من المفجوعين من أحلام متكررة أو ذكريات مؤلمة تعيد إحياء الفقد.

• الشعور بالذنب: قد يشعر البعض بالذنب لأنهم على قيد الحياة أو لأنهم لم يفعلوا ما يكفي لمن يحبونه قبل وفاته.

• فقدان المعنى والهوية: في حال كان الفقيد يشكل جزءاً كبيراً من هوية الشخص، قد يشعر المفجوع بأنه تائه.

التأثيرات الجسدية:

• الإرهاق المزمن والضعف البدني.

• انخفاض المناعة وزيادة قابلية الإصابة بالأمراض.

• اضطرابات الجهاز الهضمي والشهية.

• مشكلات في القلب قد تصل إلى متلازمة “القلب المنكسر” (Takotsubo cardiomyopathy).

الفجيعة في الطفولة والمراهقة

الأطفال والمراهقون يتعاملون مع الفجيعة بطريقة مختلفة عن البالغين، حيث يعتمد رد فعلهم على المرحلة العمرية ومستوى النضج العاطفي. قد يظهر الطفل حزنًا من خلال السلوك العدواني أو الانطوائي، وقد لا يفهم معنى الموت بالكامل، ما يستدعي توضيحات مبسطة وداعمة.

في المقابل، يمر المراهقون بتجربة فجيعة أكثر تعقيداً، حيث تتداخل مع هويتهم وتكوينهم النفسي. وغالباً ما يشعرون بعدم فهم الآخرين لمعاناتهم، ما يجعلهم أكثر عرضة للانعزال أو السلوكيات المتهورة.

الفجيعة في ضوء الثقافة والدين

في العالم العربي والإسلامي، يُنظر إلى الفقد ضمن سياق ديني وروحي، حيث يُشجَّع على الصبر، ويُستدل بآيات مثل:

“وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” – (البقرة: 155-156)

هذا البُعد الروحي يساعد الكثيرين على تقبّل الفقد، ويعزز من قدرتهم على تجاوز الألم. في المقابل، تختلف الطقوس المرتبطة بالفجيعة من مجتمع إلى آخر، وتتباين ما بين الصمت التام إلى مظاهر النياحة والعزاء الممتد.

الآثار الاجتماعية للفقد

تؤثر الفجيعة أيضاً في البنية الاجتماعية للفرد:

• تراجع في العلاقات الاجتماعية: بعض المفجوعين يختارون الانعزال التام، بينما يجد آخرون أن محيطهم لا يتفهم ألمهم.

• تغير في الأدوار الأسرية: في حال كان الفقيد شخصاً محورياً في الأسرة، قد تضطر بقية الأفراد لتحمل مسؤوليات جديدة.

• صعوبات في العودة للحياة العملية: بعض الأشخاص يجدون صعوبة في العودة للعمل أو الدراسة بعد الفقد.

استراتيجيات التعامل مع الفجيعة

رغم صعوبة الفجيعة، إلا أن هناك وسائل مساعدة للتعامل معها بطريقة صحية:

• التحدث عن المشاعر وعدم كبتها.

• طلب الدعم النفسي أو المشاركة في مجموعات دعم الفاقدين.

• تخصيص وقت للحزن، ولكن دون الاستسلام له بالكامل.

• العودة إلى الروتين اليومي تدريجياً.

• تخليد ذكرى الفقيد بطرق إيجابية (مثل إنشاء وقف خيري أو تدوين الذكريات).

الجدول التالي يوضح الفرق بين الحزن الطبيعي والفجيعة المرضية:

الفجيعة في الأدب والفن

لطالما كانت الفجيعة موضوعاً محورياً في الأدب العالمي، من قصائد المتنبي ونزار قباني إلى أعمال شكسبير ودستويفسكي. الفن والأدب وسيلتان للتعبير عن مشاعر الفقد، ولتخليد الذكرى، ولفهم أبعاد الحزن الإنساني بطريقة رمزية وعاطفية.

الخاتمة

الفجيعة ليست مجرد مرحلة، بل تجربة تتغلغل في أعماق الوعي والروح. هي إعلان صامت عن أهمية الحب، ودليل على الترابط الإنساني الذي يتجاوز حدود الحياة والموت. ورغم أن الحزن لا يختفي كلياً، إلا أن الوقت، والدعم، والإيمان، والرحمة الذاتية، كلها مفاتيح تساعد على الشفاء الجزئي، والاستمرار في الحياة دون إنكار للماضي.

المراجع:

1. Kübler-Ross, E. (1969). On Death and Dying. Macmillan.

2. Worden, J. W. (2009). Grief Counseling and Grief Therapy: A Handbook for the Mental Health Practitioner. Springer.