الفتاة الأفغانية
تمثل “الفتاة الأفغانية” أكثر من مجرد صورة التقطها مصور صحفي في ثمانينيات القرن العشرين، بل تحولت إلى أيقونة تعكس التوترات السياسية، والإنسانية، والثقافية التي مرت بها أفغانستان لعقود طويلة. إن الحديث عن “الفتاة الأفغانية” لا يقتصر فقط على الشخصية الشهيرة ذات العينين الخضراوين التي ظهرت على غلاف مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”، بل يمتد ليشمل واقع الفتاة الأفغانية عموماً في ظل الظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي خضعت لها البلاد منذ عقود.
يعد تحليل وضع الفتاة الأفغانية مدخلاً لفهم أعمق لكيفية تفاعل المجتمعات المحافظة مع قضايا التعليم، والحقوق، والهوية، والعدالة الاجتماعية. ومن خلال هذا المقال الموسع، سيتم تسليط الضوء على الواقع التاريخي، والاجتماعي، والسياسي، والثقافي الذي عاشته وتعيشه الفتيات في أفغانستان، بداية من الاحتلال السوفيتي، مروراً بالحرب الأهلية، ثم حكم طالبان في موجتيه، وصولاً إلى التدخل الأمريكي، وانتهاءً بإعادة سيطرة طالبان على الحكم في عام 2021.
1. الجذور التاريخية لوضع الفتاة الأفغانية
شهدت أفغانستان عبر تاريخها الحديث سلسلة من الاضطرابات والصراعات التي أثّرت بشكل مباشر على مختلف فئات المجتمع، وعلى رأسهم النساء والفتيات. فمنذ الإصلاحات التي بدأت في أوائل القرن العشرين، سعت حكومات أفغانية عدة إلى تحديث بنية الدولة، وكان أحد أوجه هذا التحديث هو تعزيز تعليم المرأة ومشاركتها في الحياة العامة. غير أن هذه الإصلاحات غالباً ما كانت تواجه مقاومة شرسة من القبائل، والعلماء، والمحافظين الذين كانوا يعتبرون خروج المرأة عن أدوارها التقليدية تهديداً للهوية الدينية والاجتماعية.
في عهد الملك أمان الله خان (1919-1929)، بدأت أولى خطوات تحرير المرأة الأفغانية، حيث شجعت الحكومة آنذاك على تعليم الفتيات، وسُمح للنساء بالتخلي عن الحجاب في بعض المناطق الحضرية. لكن هذه الإصلاحات قوبلت بمعارضة قوية، وكانت أحد أسباب سقوط حكمه.
2. الاحتلال السوفيتي والحرب الأهلية (1979–1996)
مع اجتياح القوات السوفيتية لأفغانستان عام 1979، دخلت البلاد مرحلة جديدة من الصراع الذي دام أكثر من عقد. خلال هذه الفترة، تم تشجيع التعليم الإجباري لكلا الجنسين، بما في ذلك الفتيات، وخاصة في المدن الكبرى مثل كابل ومزار شريف. لكن المقاومة المسلحة ضد النظام المدعوم من موسكو، والتي كانت تعتمد بشكل كبير على القيم التقليدية والدينية، أعادت التأكيد على الأدوار المحافظة للمرأة، وخاصة في المناطق الريفية.
وبعد انسحاب الاتحاد السوفيتي، اندلعت حرب أهلية طاحنة بين الفصائل المجاهدة، ما أدى إلى انهيار تام لمؤسسات الدولة. وخلال هذه المرحلة، عادت المرأة إلى دائرة الظل، حيث تعرّضت للكثير من الانتهاكات، وفُرضت عليها قيود قاسية.
3. طالبان: المرحلة الأولى من التقييد المطلق (1996–2001)
مع بروز حركة طالبان وسيطرتها على كابل في عام 1996، دخلت الفتاة الأفغانية في واحدة من أحلك مراحل تاريخها الحديث. فرضت الحركة نظاماً صارماً يقوم على تفسير متشدد للشريعة الإسلامية، ومنعت الفتيات من الذهاب إلى المدارس، وحرّمت عمل المرأة، وفرضت الحجاب والنقاب الكامل على جميع النساء.
تم فصل النساء عن الرجال في المرافق العامة، ومنعت الفتيات من ممارسة أي نشاط خارج نطاق الأسرة. لم يكن يُسمح للفتيات بالخروج من المنزل دون محرم، كما تعرضت العديد منهن لعقوبات جسدية في الشوارع على يد “شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” التابعة لطالبان في حال خالفن القواعد المفروضة.
4. ما بعد 2001: الأمل المؤقت والتمكين النسبي
بعد التدخل الأمريكي وسقوط حكم طالبان عام 2001، بدأت مرحلة جديدة اتسمت بقدر من الانفتاح النسبي، حيث تم إعادة بناء البنية التعليمية والصحية، وبدأت حملات مكثفة لتشجيع تعليم الفتيات، بدعم من المجتمع الدولي والمنظمات غير الحكومية.
ارتفعت نسبة التحاق الفتيات بالمدارس تدريجياً، خاصة في المناطق الحضرية. كما بدأت نساء أفغانيات يدخلن البرلمان، ويعملن في الإعلام، ويشاركن في أنشطة اجتماعية وثقافية متعددة. كانت هذه المرحلة بمثابة بزوغ أمل للفتاة الأفغانية، لكنها لم تكن مستقرة بالكامل، خاصة في المناطق الريفية التي ظل نفوذ طالبان فيها حاضراً.
ورغم الدعم الدولي الكبير، فإن هذه الإنجازات ظلت هشة، وقابلة للانهيار في أي لحظة، نتيجة للاضطرابات السياسية المستمرة، وتضارب الأجندات بين القوى المحلية والدولية.
5. العودة إلى الوراء: طالبان مرة أخرى (2021 – )
مع انسحاب القوات الأمريكية واستعادة طالبان للسلطة في أغسطس 2021، عادت القيود الصارمة مجدداً لتخيم على حياة الفتاة الأفغانية. أُغلقت المدارس الثانوية والجامعات أمام الفتيات، وتم تعليق معظم حقوق المرأة في الفضاء العام. كما تم حل وزارة شؤون المرأة، واستُبدلت بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد فرضت حركة طالبان مرة أخرى قواعد مشددة على لباس المرأة، ومنعت عملها في معظم القطاعات الحكومية والخاصة. حتى المنظمات الإنسانية الدولية واجهت قيوداً في توظيف النساء، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، خصوصاً في مجالات الصحة والتعليم.
6. الفتاة الأفغانية في القرى والمناطق الريفية
يمثل الواقع في القرى الأفغانية صورة أكثر قسوة من تلك التي تظهر في وسائل الإعلام العالمية. ففي المناطق النائية، لا تملك الفتيات أي وسيلة للوصول إلى التعليم أو الرعاية الصحية، وتُجبر الكثيرات على الزواج المبكر، أحياناً قبل سن الخامسة عشرة.
يتم التعامل مع الفتاة كجزء من رأس المال الاجتماعي للأسرة، حيث يُستخدم زواجها لتسوية النزاعات أو بناء تحالفات بين القبائل. ونظراً لغياب القانون وسيادة العادات القبلية، فإن أي محاولة لتمكين الفتيات في هذه المناطق غالباً ما تُقابل بعنف.
7. التعليم: ركيزة التغيير المعطلة
يعتبر التعليم حجر الزاوية في أي تحول اجتماعي طويل الأمد، لكن هذا القطاع ظل يعاني من إهمال وتسييس مستمرين في أفغانستان. ورغم الجهود التي بُذلت منذ 2001، فإن الغالبية العظمى من الفتيات في الأرياف لم تحصل على أي فرصة للتعلم. وحتى في المدن، تعرضت الطالبات لهجمات من قبل جماعات متطرفة.
وفي مرحلة ما بعد 2021، تم إغلاق آلاف المدارس الثانوية للبنات، وتحول حلم التعليم إلى ذكرى مؤلمة في أذهان الكثير من الفتيات. وعلاوة على ذلك، فإن القرار السياسي بحرمان الفتيات من التعليم لم يكن مدفوعاً باعتبارات دينية بقدر ما هو أداة للسيطرة الاجتماعية وتهميش نصف المجتمع.
8. الصورة الرمزية: شربات غولا والهوية المفقودة
عندما نُشرت صورة شربات غولا، الفتاة الأفغانية ذات العينين الخضراوين، على غلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك عام 1985، أصبحت رمزاً لمعاناة اللاجئين والحروب. عكست ملامحها الحادة والقلقة حجم الألم الذي تتعرض له الفتيات في بيئة يغيب عنها الأمن والكرامة.
بعد سنوات، تم التعرف عليها، وكانت لا تزال تعيش في ظروف قاسية في باكستان، وتم ترحيلها لاحقاً إلى أفغانستان. أصبحت قصتها تجسيداً ملموساً لمصير آلاف الفتيات اللاتي يضيعن في طيّات النزاعات، دون أن يجدن فرصة لحياة كريمة.
9. النساء في المقاومة: صوت الفتاة الأفغانية في المهجر
رغم الظروف القاسية، برزت العديد من النساء الأفغانيات في المهجر، وبدأن يرفعن أصواتهن ضد انتهاك حقوق النساء والفتيات في أفغانستان. أنشأت كثير منهن منظمات مجتمع مدني في أوروبا وأمريكا وكندا، وعملن على نشر الوعي، وحشد الدعم، والدفاع عن قضايا المرأة في المحافل الدولية.
ساهمت هذه الأصوات في إبقاء القضية حية على أجندة المجتمع الدولي، رغم الانكماش الإعلامي تجاه الشأن الأفغاني في السنوات الأخيرة. وتمثل هذه النساء بارقة أمل، وتجسيداً لفكرة أن التغيير، وإن طال، لا يزال ممكناً.
جدول يوضح التغيرات في تعليم الفتيات بين مرحلتي ما بعد 2001 وما بعد 2021
| البند | ما بعد 2001 (2002–2020) | ما بعد 2021 (عودة طالبان) |
|---|---|---|
| عدد المدارس للبنات | +12,000 | تم إغلاق أغلبها |
| نسبة الفتيات الملتحقات بالمدارس | %38 (2018) | أقل من %10 (2023) |
| المشاركة في الجامعات | آلاف الطالبات | تم حظر التعليم العالي للفتيات |
| الحريات العامة | متزايدة تدريجياً | تقلصت بشكل شبه كامل |
| الدعم الدولي | مرتفع ومستمر | تقلص بشكل كبير بسبب القيود |
10. المستقبل المجهول والمجتمع الدولي
رغم الإدانات المتكررة من قبل الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، فإن الضغط الدولي لم ينجح حتى الآن في تغيير موقف طالبان تجاه تعليم الفتيات وحقوق النساء. وحتى مع تزايد الأصوات الداعية لعزل النظام الحاكم، فإن الفتاة الأفغانية تظل في قلب الأزمة، دون ضمانات حقيقية لمستقبلها.
المشهد الراهن يشير إلى مفترق طرق حرج، حيث لا تزال خيارات التغيير محدودة، فيما تتعمق معاناة الملايين من الفتيات في كافة أرجاء البلاد. ولا يمكن لأي مشروع تنموي أو سياسي أن ينجح دون ضمان تمكين شامل للنساء، وعلى رأسهن الفتيات اللاتي يشكلن مستقبل الأمة.
المراجع:
-
Human Rights Watch. “Afghanistan: Taliban Depriving Women of Education”. 2023.
-
UNESCO. “Education in Afghanistan: Challenges and Hopes”. 2022.
