الغيرة المرضية وأثرها العاطفي

الغيرة المرضية: فهمها، جذورها، وأثرها المدمر على العلاقات النفسية والاجتماعية

تُعد الغيرة من المشاعر الإنسانية الطبيعية التي يمكن أن تُحفّز الإنسان نحو التحسن والتطور. غير أن هذه الغيرة قد تنقلب إلى نقمة عندما تتجاوز حدودها المقبولة وتتحول إلى ما يُعرف بـ”الغيرة المرضية” أو “الغيرة المَرَضِيّة القهرية”، والتي تمثل حالة نفسية غير سوية تتغلغل في وجدان الفرد لتُحدث اضطراباً في علاقاته الاجتماعية والعاطفية وتُؤثر على صحته النفسية والعقلية.

هذا النوع من الغيرة لا يرتبط غالباً بسلوك الطرف الآخر، بل ينبع من داخل الشخص المصاب، مدفوعاً بقلق مرضي وشك مفرط وعدم ثقة بالنفس، ما يجعله يرى في كل تصرف تهديداً محتملاً أو خيانة قريبة، حتى في غياب أي دليل منطقي أو ملموس.

أولاً: التعريف العلمي للغيرة المرضية

الغيرة المرضية هي اضطراب نفسي يُصنّف ضمن طيف اضطرابات الوسواس القهري أو اضطرابات الشخصية، يتمثل في شعور قهري ومستمر بالشك وعدم الثقة في الشريك أو الآخرين، مصحوباً بأفكار وتخيلات غير واقعية عن خيانة أو تفضيل شخص آخر. وتكون هذه الغيرة غير مبررة ومبالغاً فيها لدرجة تُفقد الشخص المصاب القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال.

ثانياً: الفرق بين الغيرة الطبيعية والغيرة المرضية

ثالثاً: الأسباب النفسية والاجتماعية للغيرة المرضية

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالغيرة المرضية، ويمكن تصنيفها في ثلاثة مستويات مترابطة:

1. الأسباب النفسية الداخلية

• انخفاض تقدير الذات: كثير من المصابين يعانون من شعور دائم بأنهم لا يستحقون الحب، وأن الشريك قد يجد من هو أفضل منهم.

• الاعتمادية النفسية: الشخص الغيور يعتمد كلياً على شريكه ليشعر بالأمان العاطفي، مما يجعله يخاف فقدانه بصورة مَرَضيّة.

• الخبرات الطفولية: التجارب السلبية في الطفولة، مثل الخيانة الأسرية أو الإهمال العاطفي، قد تؤسس لنمط من العلاقات غير الآمنة في الكبر.

2. العوامل الاجتماعية والثقافية

• القيم المجتمعية الذكورية أو الأبوية: قد تُعزز الغيرة لدى بعض الأفراد نتيجة ثقافات تُمجّد السيطرة على الشريك أو تضع معايير صارمة للوفاء.

• المقارنات الاجتماعية: وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من حدة الغيرة المرضية نتيجة المقارنة المستمرة بين الشركاء ومحيطهم.

3. العوامل العصبية والبيولوجية

• وجود خلل في توازن النواقل العصبية في الدماغ، مثل السيروتونين والدوبامين، مما يؤثر في طريقة معالجة المعلومات العاطفية والشكوك.

رابعاً: الأعراض والسلوكيات المرافقة للغيرة المرضية

تتجلى الغيرة المرضية في سلسلة من التصرفات القهرية والمزعجة التي تشمل:

• التجسس المستمر على الطرف الآخر (تفتيش الهاتف، مراقبة الحسابات).

• اتهامات متكررة بالخيانة دون مبرر.

• الرغبة في التحكم الكامل في حياة الشريك: أين يذهب؟ مع من يتحدث؟ متى يعود؟

• نوبات غضب مفاجئة وغير مفسرة.

• الانسحاب الاجتماعي والعيش في عزلة خوفاً من المنافسين المحتملين.

• الميل إلى العنف اللفظي أو الجسدي في بعض الحالات المتقدمة.

خامساً: التأثيرات السلبية للغيرة المرضية

1. على الفرد نفسه

• الإجهاد النفسي والعقلي: يعيش الفرد في قلق دائم وشك مستمر يجعله غير قادر على الراحة أو التركيز.

• فقدان الثقة بالنفس: كلما ازداد الشك، كلما تراجعت ثقة الشخص بنفسه.

• العزلة الاجتماعية: بسبب انشغاله بالوساوس وعدم قدرته على إقامة علاقات مستقرة.

2. على العلاقات العاطفية

• انعدام الثقة: الطرف الآخر يفقد الشعور بالأمان نتيجة الاتهامات المتكررة.

• نمو الصراع والعنف: الغيرة المرضية قد تؤدي إلى تصاعد الخلافات وربما تصل إلى الطلاق أو القطيعة.

• الإذلال والاحتقار: يفرض الغيور سيطرة تؤدي إلى تدمير كرامة الشريك وحقه في الحرية.

3. على الحياة المهنية

• قد يتأثر أداء الشخص الغيور في العمل بسبب التشتت الذهني وتدهور الحالة النفسية.

سادساً: تشخيص الغيرة المرضية

لا يُمكن تشخيص الغيرة المرضية بسهولة لأنها تتقاطع مع عدة اضطرابات أخرى مثل اضطرابات الشخصية البارانوية أو اضطراب الوسواس القهري أو حتى الاضطرابات الذهانية. ولذلك يتطلب التشخيص الدقيق ما يلي:

• جلسات تقييم نفسي متخصص.

• تحليل التاريخ الشخصي والعائلي للمريض.

• استخدام مقاييس تقييم الشك والوسواس.

ويكون الهدف الأساسي من التشخيص هو تحديد ما إذا كانت الغيرة ناجمة عن نمط شخصي أم عرضاً من أعراض اضطراب أوسع.

سابعاً: طرق العلاج والتعامل مع الغيرة المرضية

يُعَد علاج الغيرة المرضية عملية معقدة تتطلب تدخلاً متعدد الجوانب:

1. العلاج النفسي

• العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يساعد المريض على التعرف على الأفكار المشوهة وغير الواقعية، ويعمل على إعادة تشكيل طريقة تفكيره.

• العلاج الديناميكي: يتناول الجذور العاطفية العميقة للغيرة المرتبطة بالطفولة أو التجارب السابقة.

• جلسات علاج الأزواج: تتيح مساحة للشريك لفهم الحالة والمشاركة في التعافي.

2. العلاج الدوائي

• استخدام مضادات الاكتئاب أو مضادات الذهان تحت إشراف طبي، خصوصاً في الحالات التي تتداخل فيها الغيرة مع اضطرابات نفسية أخرى.

3. الدعم الأسري والاجتماعي

• وجود بيئة داعمة تساعد على تخفيف التوتر والشك وتعزز الثقة بالنفس.

• تقديم التثقيف النفسي للمحيطين لتجنب إشعال نار الغيرة عبر التعليقات أو المقارنات.

ثامناً: كيف تتطور الغيرة المرضية؟

يمكن أن تبدأ الغيرة المرضية كتفاعل طبيعي لتجربة عاطفية، لكنها قد تتطور مع مرور الوقت في غياب التدخل النفسي إلى سلوكيات عدوانية أو حتى حالات خطيرة من العنف الأسري أو الانتحار. هذا التدرج يُبرز خطورة الإهمال أو التقليل من شأن هذه الحالة.

تاسعاً: استراتيجيات الوقاية

رغم أن الغيرة المرضية تنبع في كثير من الأحيان من سمات شخصية أو خبرات مؤلمة، إلا أن هناك عدة وسائل وقائية لتقليل احتمالية تطورها:

• تعزيز الثقة بالنفس منذ الطفولة.

• تعليم الأطفال مهارات التعلق الآمن والتعامل مع الرفض.

• بناء علاقات قائمة على الشفافية والاحترام المتبادل.

• الابتعاد عن العلاقات التي تُغذي الشك أو تستفز مشاعر الغيرة بشكل دائم.

عاشراً: الغيرة المرضية في ضوء الطب النفسي الحديث

يرى كثير من علماء النفس أن الغيرة المرضية تُشكّل واحدة من أهم مظاهر الخلل في التوازن العاطفي والمعرفي. فالشخص المصاب بها يكون في حالة دائمة من تشويه الإدراك، إذ يفسّر أي سلوك بريء على أنه دليل قاطع على الخيانة. كما أن التقدم في تقنيات المراقبة الرقمية قد زاد من تعقيد الظاهرة، حيث بات بإمكان الشخص تتبع الطرف الآخر لحظة بلحظة، ما يُغذي حالته ويزيد من حدة اضطرابه.

الخلاصة

الغيرة المرضية ليست مجرد غيرة مفرطة، بل اضطراب نفسي يحتاج إلى وعي مجتمعي وتدخل علاجي متخصص. إن خطورتها لا تكمن في الألم العاطفي فحسب، بل في ما تُسببه من تفكك أسري، وعنف، وتدهور نفسي كبير. يتطلب الأمر التعامل معها بجدية علمية، بعيداً عن الأحكام الأخلاقية، من أجل الوقاية منها أو علاجها في مراحلها المبكرة.

المراجع:

1. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5).

2. Leahy, R. L. (2015). The Jealousy Cure: Learn to Trust, Overcome Possessiveness, and Save Your Relationship.