العودة للمدارس: عبء سنوي

موسم العودة إلى المدارس.. عبء مادي وشرٌّ لا بدّ منه

يُطلّ علينا موسم العودة إلى المدارس كل عام محمّلاً بتناقضات صارخة بين الفرحة والنكد، بين الأمل بالتجديد والتحصيل، وبين الاستنزاف المادي الذي يثقل كاهل الأسر، ليتحوّل هذا الفصل من السنة إلى محطة لا تخلو من القلق والتوتر عند أغلب العائلات، خاصة تلك التي تنتمي إلى الطبقات المتوسطة والفقيرة. وإذا كان التعليم واجبًا وحقًّا مكفولًا، فإنّ متطلباته باتت مع مرور السنوات تشكّل تحديًا حقيقيًا أمام شرائح واسعة من المجتمع، لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية المتكررة وتراجع القدرة الشرائية في معظم البلدان العربية.

الضغوط المادية المتفاقمة مع كل موسم

تشهد الأسواق مع اقتراب موعد بداية السنة الدراسية ازدحامًا شديدًا، حيث تتسابق الأسر لتوفير حاجيات أبنائها من دفاتر، وحقائب، وألبسة مدرسية، وأدوات مكتبية، وقرطاسية متنوعة، ناهيك عن الأقساط المدرسية، والنقل، والدروس الخصوصية، وغيرها من المصاريف التي أصبحت مرتبطة بالتحصيل العلمي ولو كانت غير منصوص عليها رسميًا.

إنّ ارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة لم يشمل فقط السلع الغذائية أو المحروقات، بل طال أيضًا المستلزمات المدرسية التي شهدت زيادات غير مبرّرة أحيانًا، ما يجعل تجهيز طفل واحد للمدرسة يُكلّف مئات الدولارات في بعض البلدان، فكيف بمن لديه أكثر من طفل؟ وفي هذا السياق، تشير تقارير اقتصادية صادرة عن مؤسسات إحصائية عربية إلى أنّ متوسط ما تنفقه الأسرة العربية ذات الدخل المتوسط على تجهيز طالب واحد قد يساوي ما تنفقه على المواد الغذائية الأساسية لشهر أو أكثر، وهو أمر يكشف بوضوح حجم العبء الاقتصادي الذي يشكّله هذا الموسم السنوي.

الأقساط المدرسية بين الجودة والتضخّم

لا يخفى على أحد أنّ التعليم الخاص بات حلمًا للكثير من أولياء الأمور، حيث يُنظر إليه كممر ضروري لتأمين مستقبل أفضل للأبناء، خصوصًا مع تراجع مستوى التعليم العام في عدد من الدول العربية. لكن المفارقة الكبرى تكمن في الأسعار الباهظة التي تفرضها المدارس الخاصة، حيث باتت أقساط بعضها تُضاهي أقساط الجامعات، رغم أن الخدمة المقدّمة في كثير من الأحيان لا ترقى إلى المأمول.

يأتي موسم العودة إلى المدارس في ظل أوضاع اقتصادية خانقة في كثير من الدول، مع نسب بطالة مرتفعة، وتدنٍ في الأجور، وانخفاض في القوة الشرائية، وهو ما يضع أولياء الأمور في معادلة مستحيلة: تأمين تعليم جيّد في مقابل الالتزامات المالية الثقيلة. وقد باتت الأسر تلجأ إلى حلول ترقيعية، مثل الاقتراض، أو الاعتماد على الجمعيات الخيرية، أو حتى اللجوء إلى المستلزمات المستعملة، لتجاوز هذه المرحلة الحرجة كل عام.

الأعباء النفسية والاجتماعية المرافقة

لا تتوقّف تأثيرات موسم العودة إلى المدارس عند الحدود المادية فقط، بل تمتد إلى الجانب النفسي والاجتماعي. فشعور الأطفال أنفسهم بأنّهم أقل تجهيزًا من أقرانهم يمكن أن يولّد لديهم نوعًا من الإحباط أو الإحساس بالدونية، ما ينعكس سلبًا على اندماجهم المدرسي وقدرتهم على التفاعل داخل البيئة التعليمية.

أما الآباء، فيعانون من قلق دائم يسبق هذا الموسم، إذ يتحوّل البيت إلى ساحة توتر بسبب ضيق الموارد وكثرة المتطلبات، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى احتدام المشاحنات بين الأزواج، وزيادة الضغوط النفسية التي قد تُفضي في بعض الحالات إلى اضطرابات مثل الاكتئاب الموسمي، أو القلق المفرط.

الجدول التالي يوضح متوسط تكاليف مستلزمات العودة إلى المدارس لأسرة تضم 3 أطفال في دولة عربية ذات دخل متوسط:

الحلول المطروحة.. محدودة وغير مستدامة

أمام هذا الواقع، تسعى بعض الحكومات إلى اتخاذ إجراءات للتخفيف من وطأة الأعباء المدرسية على المواطنين، من خلال تقديم منح تعليمية، أو توزيع دفاتر وحقائب مجانية، أو دعم المدارس الحكومية بهدف تحسين جودتها. إلا أن هذه الإجراءات غالبًا ما تكون محدودة من حيث التغطية أو موجهة لفئات ضيقة جدًا من المجتمع.

القطاع الخاص بدوره يعمد أحيانًا إلى تسويق مبادرات شكلية تحت عنوان “العروض الخاصة بموسم العودة”، وهي في الحقيقة لا تمثّل سوى تخفيضات طفيفة لا تُخفّف كثيرًا من العبء العام. أما منظمات المجتمع المدني، فهي تبذل جهودًا واضحة في بعض الدول من خلال حملات توزيع المستلزمات على العائلات الفقيرة، غير أن حجم الاحتياجات يبقى أكبر بكثير من الإمكانات المتوفرة لديها.

تناقض الصورة المثالية للتعليم مع الواقع الاقتصادي

في الخطاب الرسمي، غالبًا ما يُصوّر التعليم كحق مكتسب ومجاني، وركيزة لبناء المستقبل، وأداة لمحاربة الفقر. إلا أن الواقع الاقتصادي يُظهر أنّ هذا الحق بات مشروطًا بالقدرة المالية، وأن الفجوة التعليمية تتسع يومًا بعد يوم بين من يملكون ومن لا يملكون. لقد تحوّلت المدارس من مؤسسات للعلم إلى مؤسسات تجارية في كثير من الأحيان، تفرض اشتراكات وخدمات تُحمّل الأسر أكثر مما تطيق.

في كثير من الدول العربية، لا يكاد يمرّ موسم العودة إلى المدارس من دون احتجاجات على ارتفاع الأقساط أو على سوء الخدمات التعليمية في القطاع العام، ما يعكس بوضوح أن هناك خللًا هيكليًا في منظومة التعليم من جهة، وفي السياسة الاجتماعية الاقتصادية من جهة أخرى.

أثر العودة إلى المدارس على الاقتصاد المحلي

من جهة أخرى، لا يمكن إغفال الأثر الذي يتركه هذا الموسم على الأسواق والاقتصاد المحلي. فالتجار يراهنون على هذا الموسم لتحقيق أرباح سنوية مرتفعة، ما يدفع كثيرين منهم إلى احتكار بعض السلع، أو رفع أسعارها دون مبرر واضح. كما يُلاحظ في هذا السياق، ازدهار الأسواق الموازية أو ما يُعرف بالأسواق الشعبية، حيث يلجأ ذوو الدخل المحدود لشراء المنتجات بأسعار أقل، ولو كانت جودتها متدنية.

الاقتصاد غير الرسمي يستفيد هو الآخر من هذا الموسم، من خلال الورشات التي تصنع الحقائب والألبسة المدرسية بأسعار تنافسية، وكذلك من خلال خدمات الطباعة والتغليف واللوازم المدرسية المقلدة. هذا النشاط التجاري، رغم سلبياته من حيث الجودة أو الرقابة، يوفّر بدائل حقيقية لأسر تعاني من ضغوط معيشية متزايدة.

بين واجب الدولة ووعي المجتمع

يبقى التعليم مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، إلا أنّ حجم التحديات الراهنة يضع الدولة في موقع المساءلة الأولى، من حيث قدرتها على توفير تعليم نوعي مجاني، ومن حيث دعم الأسر في مواسم الذروة التي تنهك ميزانياتها، كموسم العودة إلى المدارس. إنّ تأمين البنية التحتية المناسبة، وتطوير المناهج، وتحسين أجور المعلمين، لا تقل أهمية عن توفير آليات لحماية المواطنين من الغلاء ومن استغلال السوق.

في المقابل، لا بدّ من رفع الوعي المجتمعي حيال ثقافة الاستهلاك المفرط التي ترافق هذا الموسم، حيث ينجرف البعض خلف موضة الحقائب أو أدوات القرطاسية الغالية التي لا ضرورة فعلية لها، بل قد تكون مظهرية فقط. التوازن بين الحاجة والقدرة هو مفتاح العبور الآمن لهذه المرحلة السنوية الحساسة.

ملاحظات ختامية

إن موسم العودة إلى المدارس، رغم ما يرمز إليه من تجديد وبداية جديدة، يبقى في السياق العربي مرادفًا للمعاناة المادية، والتحديات النفسية، والاختلالات البنيوية في سياسات التعليم. ورغم كونه موسمًا دوريًا يمكن التنبؤ به، إلا أن الإجراءات المتخذة لمواجهته تظل في معظم الأحيان ظرفية، وتفتقر إلى الاستدامة والعدالة الاجتماعية. وبينما تتكاثر المبادرات الفردية والجمعوية في محاولة لتخفيف الأعباء، فإن الحل الحقيقي لا يكمن إلا في إصلاح جذري للسياسات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، بما يضمن حقًا فعليًا لا نظريًا في التعليم لكل فرد، دون أن يكون ذلك على حساب كرامته أو قدرته على العيش الكريم.

المراجع:

1. تقرير البنك الدولي حول التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – 2023.

2. المؤسسة العربية لضمان الاستثمار وائتمان الصادرات (ضمان) – مؤشرات الفقر والتعليم – 2024.