العنف الزوجي: أبعاده النفسية والاجتماعية والقانونية
يُعد العنف الزوجي أحد أكثر الظواهر الاجتماعية خطورة وتأثيرًا على استقرار الأسرة وتماسك المجتمع. فالعلاقة الزوجية، التي يُفترض أن تقوم على المحبة والاحترام والتفاهم، قد تتحول في كثير من الحالات إلى ساحة للعنف والإيذاء النفسي أو الجسدي أو اللفظي، مما يؤدي إلى نتائج مدمّرة على الأفراد، خصوصًا النساء والأطفال، وعلى النسيج الاجتماعي برمته. تتعدد مظاهر العنف الزوجي وتتداخل أسبابه بين النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ويتطلب فهم هذه الظاهرة معالجة علمية شاملة تأخذ في الاعتبار جميع العوامل المؤثرة فيها، كما تتطلب تشريعات رادعة وآليات تدخل فاعلة لحماية الضحايا.
مفهوم العنف الزوجي
العنف الزوجي هو أي سلوك عدواني أو قهري أو تهديدي يصدر من أحد الزوجين تجاه الآخر بهدف السيطرة أو الإيذاء أو الإخضاع. وقد يأخذ العنف أشكالًا متعددة، منها العنف الجسدي كالضرب والركل والصفع، والعنف النفسي كالإهانة والتحقير والتهديد والابتزاز، والعنف الجنسي كالاعتداء أو الإكراه، بالإضافة إلى العنف الاقتصادي الذي يتمثل في السيطرة على الموارد المالية وحرمان الطرف الآخر من حقه في الإنفاق أو العمل.
يمتد هذا العنف ليشكل تهديدًا مباشرًا على كيان الأسرة وعلى التنمية المجتمعية، لما له من آثار سلبية طويلة الأمد تطال الصحة النفسية والبدنية والاجتماعية للضحايا. وغالبًا ما يكون العنف الزوجي مسكوتًا عنه، إما بسبب الخوف أو التبعية الاقتصادية أو الضغوط الاجتماعية أو بسبب غياب الآليات الفاعلة للتبليغ والحماية.
أشكال العنف الزوجي
1. العنف الجسدي
يتضمن استخدام القوة البدنية لإلحاق الأذى بالضحية، مثل الضرب والدفع والحرق والركل والخنق، وغالبًا ما يترك آثارًا جسدية واضحة، إلا أن خطورته لا تقتصر على الآثار البدنية، بل تمتد لتشمل الأذى النفسي الذي قد يستمر لسنوات.
2. العنف النفسي أو العاطفي
يُعد من أكثر أشكال العنف شيوعًا وصعوبة في الرصد، ويشمل الإهانة المستمرة، التقليل من قيمة الشريك، التحكّم، العزل الاجتماعي، إشعار الطرف الآخر بالذنب، والتهديد بالتخلي أو الفضح أو العنف. وغالبًا ما يكون هذا النوع من العنف هو الممهد لظهور أشكال أكثر حدة من العنف.
3. العنف الجنسي
يشمل هذا النوع من العنف إجبار الشريك على ممارسة العلاقة الحميمة دون رغبته أو بطريقة مهينة، أو ممارسة سلوكيات جنسية غير مرغوبة باستخدام التهديد أو الإكراه. وهو من أكثر أشكال العنف الزوجي إيلامًا نفسيًا ومساسًا بالكرامة الإنسانية.
4. العنف الاقتصادي
يتمثل في حرمان أحد الزوجين من الموارد المالية أو التحكم الكامل في أمواله، أو منعه من العمل، أو مصادرة راتبه، مما يولّد حالة من التبعية والعجز عن اتخاذ القرارات المستقلة، خصوصًا لدى النساء اللواتي يعانين من الفقر أو قلة الفرص.
الأسباب المؤدية إلى العنف الزوجي
1. الأسباب النفسية
اضطرابات الشخصية، كالنرجسية والعدوانية، أو معاناة أحد الزوجين من أمراض نفسية مثل الاكتئاب أو اضطرابات ما بعد الصدمة أو اضطرابات السيطرة على الغضب، تلعب دورًا محوريًا في انتشار سلوك العنف داخل الأسرة.
2. الأسباب الاجتماعية
العوامل المرتبطة بالنشأة الاجتماعية والعائلية، مثل التعرض للعنف في الطفولة، أو التعود على ثقافة العنف كأسلوب تواصل، تساهم في تكرار هذا السلوك في الحياة الزوجية. كما أن وجود علاقات اجتماعية غير صحية تدعم الهيمنة الذكورية أو تبرر العنف تحت مسمى “السلطة الأبوية” يفاقم المشكلة.
3. الأسباب الثقافية
بعض الأعراف والمعتقدات التي تُكرس دونية المرأة وتعطي الأفضلية المطلقة للرجل في الأسرة، تبرر له ممارسة العنف بحجة التأديب أو الحفاظ على الشرف. هذه المفاهيم الخاطئة، المدعومة أحيانًا بتفسيرات مغلوطة للنصوص الدينية أو للعادات، تعرقل محاولات التغيير.
4. الأسباب الاقتصادية
تتزايد حالات العنف في الأسر التي تعاني من ضغوط مالية وبطالة وفقر، إذ تتولد مشاعر الإحباط واليأس، وغالبًا ما تُفرغ هذه المشاعر في شكل سلوك عدواني تجاه الشريك الأضعف. كما أن التبعية الاقتصادية لأحد الزوجين، غالبًا المرأة، تجعل من الصعب عليه مغادرة العلاقة العنيفة.
الآثار النفسية والاجتماعية للعنف الزوجي
1. الآثار النفسية على الضحية
تظهر تداعيات العنف الزوجي بوضوح على الصحة النفسية للضحايا، حيث يعانون من اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق والذعر واضطرابات ما بعد الصدمة والميول الانتحارية. وغالبًا ما تُفقد الضحية ثقتها بنفسها وتدخل في عزلة اجتماعية تُفاقم حالتها النفسية.
2. الآثار الجسدية
قد يؤدي العنف الجسدي إلى إصابات بالغة كالكدمات والكسور والحروق وحتى العاهات الدائمة. كما أن العنف الجنسي يؤدي إلى مشاكل صحية كالإصابات التناسلية، والأمراض المنقولة جنسيًا، والاضطرابات الهرمونية والنفسية المرتبطة بالعلاقة الحميمية.
3. تأثيره على الأطفال
يتأثر الأطفال بشكل كبير بالعنف الزوجي، سواء كانوا شهودًا له أو ضحايا غير مباشرين. الطفل الذي يشهد عنفًا بين والديه معرض لمشاكل نفسية وسلوكية خطيرة، منها صعوبات التعلم، العدوانية، القلق، وضعف الأداء المدرسي، مما قد يرسّخ نمط العنف في شخصيته لاحقًا.
4. التأثير المجتمعي
يتسبب العنف الزوجي في ضعف النسيج الاجتماعي، ويؤدي إلى تفشي ظواهر الطلاق والتفكك الأسري وتراجع الإنتاجية المجتمعية، كما يُثقل كاهل المؤسسات الصحية والقانونية والاجتماعية بسبب الحاجة المتزايدة إلى الخدمات المرتبطة بهذه الظاهرة.
آليات الوقاية والحماية من العنف الزوجي
1. التوعية والتثقيف المجتمعي
نشر الوعي بثقافة الاحترام المتبادل، وبيان خطورة العنف الزوجي وآثاره، يعد الخطوة الأولى نحو تقليص هذه الظاهرة. يجب أن تستهدف حملات التوعية جميع الفئات، وخاصة الرجال والشباب، لتعزيز مفاهيم العدالة والمساواة داخل الأسرة.
2. دور المؤسسات التعليمية والدينية
على المؤسسات التعليمية إدماج مفاهيم حقوق الإنسان والمواطنة والتربية النفسية في المناهج، وعلى المؤسسات الدينية تقديم خطاب عقلاني متزن ينبذ العنف ويدعو إلى الرحمة والتفاهم بين الزوجين، بعيدًا عن التأويلات التي تُكرّس الهيمنة أو الإذلال.
3. الدعم النفسي والاجتماعي
يُعد توفير مراكز إيواء وحماية للضحايا من أهم الوسائل لتمكينهم من النجاة والبدء من جديد. كما أن تقديم العلاج النفسي وإعادة تأهيل الضحية والجاني على حد سواء يُعد أمرًا حيويًا لقطع حلقة العنف.
4. التشريعات القانونية الرادعة
يجب أن تضمن القوانين العقاب الرادع للجناة، وتوفير آليات التبليغ السهلة والسرية، بالإضافة إلى إنشاء وحدات شرطة متخصصة بالعنف الأسري، وتدريب القضاة والعاملين في المجال القانوني على التعامل مع قضايا العنف الزوجي بحساسية وعدالة.
العنف الزوجي في التشريعات العربية
تعاني العديد من الدول العربية من ضعف واضح في التشريعات المتعلقة بالعنف الأسري، سواء من حيث تجريمه صراحةً، أو من حيث آليات الحماية. ومع ذلك، شهدت بعض الدول خطوات إصلاحية مثل سن قوانين خاصة لحماية الأسرة وإنشاء وحدات استجابة عاجلة في الشرطة. لكن تطبيق هذه القوانين يظل محدودًا بسبب ضعف آليات التنفيذ، وقلة الوعي القانوني لدى النساء، والضغوط الاجتماعية التي تمنعهن من التبليغ.
في المقابل، لا تزال بعض المجتمعات تعتبر الشؤون الزوجية “أسرارًا خاصة” لا يجوز التدخل فيها، وهو ما يُشكل بيئة خصبة لاستمرار العنف وتفاقمه.
جدول يوضح أشكال العنف الزوجي وأثرها المحتمل
| نوع العنف | وصف السلوك | التأثيرات المحتملة |
|---|---|---|
| جسدي | ضرب، خنق، ركل، استخدام أدوات حادة | إصابات جسدية، خوف دائم، عاهات جسدية |
| نفسي/عاطفي | تحقير، تهديد، إهانة، عزلة اجتماعية | اكتئاب، ضعف الثقة بالنفس، اضطرابات نفسية |
| جنسي | إكراه على العلاقة، ممارسات غير مرغوبة | صدمة نفسية، أمراض جنسية، مشاكل في العلاقة |
| اقتصادي | حرمان من المال، منع من العمل | تبعية مالية، فقدان الاستقلال |
الخلاصة
العنف الزوجي ليس مجرد خلاف عابر بين الزوجين، بل هو أزمة إنسانية واجتماعية تهدد أسس الاستقرار العائلي وتنتهك كرامة الإنسان. الوقوف بوجه هذه الظاهرة يتطلب تضافر جهود جميع مؤسسات المجتمع، من الأسرة والتعليم والدين إلى الإعلام والتشريع. كما أن دعم الضحايا وتمكينهم نفسياً واقتصادياً هو حجر الزاوية لإنهاء دوامة العنف. وتبقى الوقاية، والتثقيف، والعدالة، والاستجابة السريعة أهم ركائز التصدي لهذه الظاهرة المتفشية.
المراجع:
-
WHO, “Violence against women”, 2021. https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/violence-against-women
-
الأمم المتحدة، تقارير هيئة المرأة حول العنف القائم على النوع الاجتماعي.
