هل تعمل في وظيفة أم في “نداء” دعاك الواجب إليه؟
منذ القدم، لطالما كانت مسألة العمل والتوظيف محوراً أساسياً في حياة الإنسان، حيث يسعى العديد من الأفراد إلى بناء مستقبلهم المهني وتحقيق الاستقرار المالي. ومع مرور الزمن، تطورت المفاهيم المرتبطة بالعمل، لتشمل ليس فقط ما يتعلق بالرزق، بل أيضاً ما يتعلق بالمعنى والغاية التي يقف وراءه. لذلك، أصبح من الضروري التمييز بين العمل بوصفه “وظيفة” يسعى الفرد من خلالها إلى الحصول على راتب أو دخل ثابت، وبين العمل الذي يمثل “نداء” داخلياً، استجابة لواجب إنساني أو اجتماعي أكبر من مجرد تحقيق المكاسب الشخصية.
يُطرح السؤال هنا: هل نحن نعمل في وظيفة أم في “نداء” دعاك الواجب إليه؟ وهذا يتطلب منا العودة إلى مفهوم العمل ذاته، والتفكير العميق في دوافع الإنسان وراء مسعاه في الحياة المهنية.
مفهوم العمل: الوظيفة والنداء
الوظيفة في أبسط تعريفاتها هي المهمة التي يتولاها الفرد مقابل تعويض مادي. إنها علاقة قائمة على تبادل المنفعة حيث يقوم الشخص بتقديم وقت وجهد مقابل أجر، وقد تكون هذه الوظيفة مرتبطة بمجموعة من المهام المحددة التي لا تتعدى نطاق العمل الوظيفي. قد تكون الوظيفة مصدر رزق أساسي لكنها في كثير من الأحيان لا تتطلب تحملاً عاطفياً أو أخلاقياً كبيراً من الشخص. هي ببساطة وسيلة لتحقيق غاية مادية أو اجتماعية مثل تأمين حياة كريمة أو بناء مسيرة مهنية.
أما النداء، فيُعتبر أكثر من مجرد وظيفة أو مصدر دخل. هو ذلك الوازع الداخلي الذي يدفع الإنسان إلى ممارسة عمل معين بدافع من المبادئ أو القيم التي يحملها. يمكن أن يكون النداء مرتبطاً برسالة إنسانية أو اجتماعية، إذ يشعر الشخص بأن هناك حاجة لوجوده في مكان معين لإحداث تغيير أو تقديم قيمة لمجتمعه. لا يتعلق النداء بالجانب المادي البحت، بل يتجاوز ذلك إلى جانب معنوي عميق يجعل العمل شيئاً مقدساً، سواء كان في خدمة الناس، أو في تحقيق حلم شخصي، أو في الوفاء برسالة معينة في الحياة.
العمل كوظيفة: الجوانب المادية والوظيفية
في عالمنا المعاصر، نجد أن العمل في وظيفة غالباً ما يكون مدفوعاً بالاحتياجات المادية. من الصعب أن نجد شخصاً في سوق العمل لا يسعى إلى تأمين لقمة العيش، وضمان الحياة المستقرة له ولأسرته. إن العمل في وظيفة يعتبر خطوة ضرورية في مسار الحياة اليومية التي تبدأ عادة من مرحلة التعليم ثم الانتقال إلى سوق العمل. قد تكون الوظيفة بسيطة أو معقدة، لكنها تظل جزءاً من دورة الحياة التي يعتمد فيها الفرد على تحقيق دخل ثابت لضمان استمرارية حياته.
يُعتبر العمل في الوظيفة في كثير من الحالات أمراً ضرورياً للعيش، حيث يقدم الأفراد على تحمل ضغوط وظروف العمل لأجل تأمين احتياجاتهم اليومية. وبهذا المعنى، لا يكون العمل مجرد وسيلة للتسلية أو ملء الوقت، بل هو أداة أساسية للبقاء والتكيف مع متطلبات الحياة. من هنا، تنشأ الحاجة إلى التنقل من وظيفة إلى أخرى أو السعي وراء ترقيات وظيفية أفضل لضمان دخل مادي أعلى. وفي هذه الرحلة، قد يكون التقدير الوظيفي أو المكافآت المادية هي المحفزات الرئيسية.
لكن، وعلى الرغم من الأهمية الاقتصادية للعمل الوظيفي، فإن هذا النوع من العمل قد لا يكون مشبعاً من الناحية النفسية أو الروحية. في بعض الأحيان، قد يشعر الأفراد الذين يعملون في وظائف تقليدية بأنهم مقيدون بالروتين أو محاصرون في سياق لا يتيح لهم التعبير عن أنفسهم بحرية أو تحقيق رغباتهم الذاتية. قد يصبح العمل مجرد روتين يومي يتم تكراره بلا شغف أو اندفاع داخلي، مما يخلق حالة من الفراغ العاطفي لدى البعض.
العمل كنداء: القيم والمعنى وراء العمل
في المقابل، هناك نوع آخر من العمل يرتبط بالنداء الداخلي أو بالرسالة التي يشعر الشخص أنه مدعو إليها. في هذا النوع من العمل، لا يكون الدافع الأساسي هو الحصول على أجر، بل يكتسب العمل بعداً أعمق يتعلق بالالتزام تجاه قضية أو هدف معين. يعتبر هذا النوع من العمل مصدر فخر واعتزاز، حيث يكون الفرد في حالة من الانسجام بين ما يفعله وما يعتقد أنه يجب عليه فعله.
قد يظهر هذا النوع من العمل في شكل عمل تطوعي، أو في مهن تتطلب جهداً فكرياً أو بدنياً من أجل خدمة الآخرين مثل الطب، التعليم، أو العمل الاجتماعي. في هذه الحالات، قد يضحي الفرد بوقته أو راحته من أجل تحقيق مصلحة أكبر، سواء كانت مصلحة المجتمع أو مصلحة الأفراد المحتاجين.
على سبيل المثال، الطبيب الذي يعمل في ظروف صعبة لخدمة المرضى، أو المعلم الذي يبذل جهداً استثنائياً من أجل تعليم الطلاب وتوجيههم نحو الأفضل، قد يشعر في هذه الأعمال بأنهم يلبون نداء داخلياً يفوق مجرد أداء وظيفة يومية. في مثل هذه الأعمال، يكون الرضا الداخلي أهم من المكافآت المادية، ويمكن أن يشعر الشخص بإنجاز شخصي عندما يرى أثر عمله على الآخرين، مما يجعل هذه الوظائف أكثر إشباعاً من الناحية النفسية.
الفرق بين الوظيفة والنداء
الفرق بين العمل بوصفه “وظيفة” والقيام به استجابة لـ “نداء” داخلي يعود إلى الأساس النفسي والدافع وراء العمل. ففي الوظيفة، غالباً ما يتوقع الشخص العائد المادي أو الاجتماعي مقابل عمله، مما يفرض عليه نوعاً من التكيف مع متطلبات العمل بغض النظر عن مدى ملاءمته لرغباته الداخلية. أما في حالة العمل الذي يُعتبر نداء، فإن الشخص يعمل بدافع من التزامه الشخصي أو رغبة في إحداث تغيير إيجابي في العالم. العمل في هذه الحالة ليس مجرد وسيلة للربح، بل هو رسالة أو دور يُؤمن به الفرد ويشعر أن مهمته في الحياة ترتبط بتحقيقه.
إضافة إلى ذلك، يُمكن للعديد من الأشخاص الجمع بين هذين النوعين من العمل. فبعض الأشخاص قد يختارون وظيفة تلبي احتياجاتهم المالية، وفي الوقت ذاته يسعون إلى استثمار وقتهم في عمل يشعرون بأنه نداء داخلي. على سبيل المثال، يمكن للفرد أن يعمل في وظيفة إدارية ثابتة لتأمين دخله، بينما يشارك في وقت فراغه في العمل التطوعي أو يسعى لتحقيق أهدافه الشخصية في مجالات أخرى مثل الفن أو الكتابة.
العمل كوظيفة والرفاه النفسي
من المهم أيضاً أن نأخذ في الاعتبار كيف يؤثر نوع العمل على الصحة النفسية للفرد. العمل في وظيفة يمكن أن يكون محملاً بالتوتر والضغط النفسي، لا سيما إذا كانت بيئة العمل غير صحية أو غير محفزة. قد يشعر الفرد بالملل أو الفشل إذا كانت الوظيفة لا تتماشى مع رغباته أو مهاراته الحقيقية. من ناحية أخرى، إذا كان العمل نابعاً من رغبة داخلية وشغف حقيقي، فإن الشخص يشعر بالإيجابية والرضا، مما يعزز من رفاهيته النفسية.
عندما يعمل الإنسان في مهنة أو وظيفة تتماشى مع قناعاته، فإن ذلك يمنحه شعوراً عميقاً بالإنجاز، وهذا بدوره يساهم في زيادة ثقته بنفسه. أما عندما يكون العمل مجرد وسيلة للربح، فإن الشخص قد يفتقر إلى الشعور بالإشباع الشخصي، مما يمكن أن يؤدي إلى الاستنزاف العاطفي وفقدان الدافع.
الختام
العمل ليس مجرد وسيلة للبقاء أو الحصول على المال، بل هو أيضاً جزء من رحلة البحث عن الذات وتحقيق التوازن بين متطلبات الحياة المادية والمعنوية. سواء كان العمل عبارة عن وظيفة أو نداء داخلي، فإن كل نوع يحمل في طياته تحديات وفرصاً. تظل قيمة العمل الحقيقية في المعنى الذي يضيفه إلى حياة الفرد والمجتمع، وفي كيفية التفاعل بين ما يقوم به الإنسان وبين الرسالة التي يحملها في حياته.
على الرغم من أن العمل الوظيفي قد يوفر الاستقرار المالي، إلا أن العمل الذي يستجيب لنداء داخلي ويعكس قيم الفرد يمكن أن يكون مصدراً أكبر للسلام الداخلي والإشباع الروحي.
