العمل بالقرآن وأثره

العمل بالقرآن

القرآن الكريم ليس كتابًا عاديًا يُقرأ أو يُتلى فحسب، بل هو منهاج حياة متكامل، نزل من عند الله تعالى ليكون هداية للناس، ونورًا يُضيء دروبهم، ومصدر تشريع يوجّه السلوك الفردي والجماعي، ويؤسس لنظام أخلاقي وروحي متكامل. إن “العمل بالقرآن” لا يعني مجرد التلاوة أو الحفظ، بل يتجاوز ذلك ليشمل الالتزام التام بتعاليمه، وتطبيق أحكامه، والتحاكم إليه، والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، واستحضاره في كل شأن من شؤون الحياة.

في هذا المقال، نسلّط الضوء على مفهوم العمل بالقرآن، وأهميته في حياة المسلم، وأبرز مجالاته، وآثاره الفردية والمجتمعية، كما نعرض مواقف السلف الصالح في هذا الباب، ونسوق شواهد من الواقع تؤكد كيف يكون العمل بالقرآن سبيلًا للنهضة والتقدم، ووسيلة للفوز في الدنيا والآخرة.

مفهوم العمل بالقرآن

العمل بالقرآن يعني اتخاذ هذا الكتاب العظيم مرجعًا ومنهجًا يُحتكم إليه في كل مناحي الحياة، ويُتَّبع في الاعتقاد، والعبادة، والسلوك، والأخلاق، والتعاملات، والتفكير، بل وفي الشعور والتفاعل. فلا يكتمل الإيمان بالقرآن إلا بالعمل بما جاء فيه، لأن القراءة والتلاوة إن لم تُثمر امتثالًا وتطبيقًا، فإنها تكون قاصرة الأثر محدودة النفع.

وقد قال الله تعالى:

﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].

فالآية واضحة في أن التبعية الحقة هي لما أنزل الله من القرآن، وليس لما تمليه الأهواء أو الأعراف أو الثقافات الدخيلة.

أهمية العمل بالقرآن في حياة المسلم

العمل بالقرآن هو عنوان صدق الإيمان، ودليل على تعظيم كلام الله، وهو السبب في تزكية النفس وتطهيرها، وهو السبيل لنيل رضا الله والفوز بجنته. وبدون العمل بالقرآن يصبح الإنسان عرضة للضلال، ولو كان يحفظ ألف آية.

وقد ورد في الحديث الشريف:

«القرآن حجة لك أو عليك» رواه مسلم.

فمن عمل به كانت له الحُجة، ومن أعرض عنه قامت عليه الحُجة.

إن القرآن حين يُعمل به، يحوّل صاحبه إلى إنسان رباني، مهذّب الخُلق، صادق المعاملة، عادل في أحكامه، نزيه في تجارته، عابد في سره وعلانيته، ويصبح المجتمع حينها مجتمعًا قرآنيًا تفيض فيه القيم والمبادئ، ويسوده الأمن والتكافل والعدل.

مجالات العمل بالقرآن

العمل بالقرآن لا يقتصر على زاوية واحدة من الحياة، بل يمتد ليشمل كل المجالات:

1. في العقيدة والتوحيد

القرآن يؤسس لعقيدة التوحيد الخالص لله، ويعالج الانحرافات الفكرية، ويهدي إلى الفطرة، وينفي الشرك والبدع والخرافة، ويُعلّم التوكل على الله، والخوف منه، والرجاء فيه، والإخلاص في العبادة.

2. في العبادات

القرآن يشرح أصول الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويوجّه إلى إقامتها بالشكل الصحيح، كما يربط العبادات بالغرض الأساسي منها وهو التقوى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].

3. في الأخلاق والسلوك

القرآن يدعو إلى الصدق، والعدل، والعفة، والرحمة، والحياء، ويُنهى عن الكذب، والغيبة، والنميمة، والفساد، والكبر، والعنف، وسوء الظن. وقد كان خُلق النبي ﷺ القرآن، كما قالت عائشة: “كان خلقه القرآن” رواه مسلم.

4. في العلاقات الاجتماعية

القرآن ينظم علاقة الإنسان بأسرته، وجيرانه، ومجتمعه، ويضع قواعد المودة، والبر، والإحسان، والصلة، والإصلاح، ويُشرّع أحكام الزواج والطلاق، والميراث، والإنفاق، والعدل بين الناس.

5. في المعاملات المالية

القرآن يحرّم الربا، والاحتكار، والغش، والسرقة، ويوجّه إلى التجارة الحلال، ويوضح آداب البيع والشراء، ويوصي بالوفاء بالعقود، والصدق في الميزان.

6. في الحكم والقضاء

القرآن يجعل الشورى والعدل من ركائز الحكم، ويحث على الحُكم بما أنزل الله، ويحذر من اتباع الهوى والتفريط في الحقوق، ويُؤسس لمبدأ المسؤولية والمساءلة.

مواقف السلف في العمل بالقرآن

لقد كان السلف الصالح نموذجًا راقيًا في العمل بالقرآن، فلم يكونوا يقرؤون آية إلا سعوا لتطبيقها في حياتهم، حتى اشتهر عنهم أن أحدهم كان لا يتجاوز عشر آيات حتى يفقهها ويعمل بها.

قال عبد الله بن عمر: “لقد عشنا زمنًا، وكان أحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزجرها، وما ينبغي أن نقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت رجالًا يُؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمره، ولا زجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثره نثر الدقل!” [رواه الحاكم].

وقد قالت أم المؤمنين عائشة: “كان خلقه القرآن” أي أن النبي ﷺ كان تطبيقًا عمليًا للقرآن، فهو يعيشه في أقواله وأفعاله، وسلوكياته.

العمل بالقرآن سبيل للنهضة الفردية والمجتمعية

القرآن ليس فقط وسيلة للنجاة الآخرة، بل هو أيضًا طريق للنهضة الدنيوية حين يُتّبع. لقد شهد التاريخ أن الأمم التي جعلت القرآن دستورًا حياتيًا نهضت وارتقت، بينما التي جعلته زينة للحلقات دون تطبيق، تراجعت وضعفت.

وقد أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هذا المعنى بقوله: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”.

والقرآن في الوقت نفسه يُعالج كل أزمات الإنسان الحديث: من فقدان المعنى، إلى تفكك الأسرة، إلى الأزمات الأخلاقية، إلى الشعور بالوحدة والضياع، إلى التحديات الاقتصادية والسياسية، لأنه كتاب شامل لا يعالج الأعراض، بل الجذور.

شروط العمل الحقيقي بالقرآن

العمل بالقرآن لا يتم بصورة عشوائية، بل ينبغي توفر شروط أساسية، منها:

آثار العمل بالقرآن على الفرد والمجتمع

على الفرد:

• صفاء القلب ونقاء الروح

• الشعور بالسكينة والطمأنينة

• البصيرة في الأمور، والحكمة في التعامل

• الاتزان النفسي والعاطفي

• الفوز برضا الله في الدنيا والآخرة

على المجتمع:

• إشاعة قيم العدل والإحسان

• تقوية الروابط الاجتماعية

• بناء أنظمة نزيهة وفعالة

• تحقيق الأمن والاستقرار

• إرساء حضارة راشدة أساسها القيم القرآنية

مظاهر غياب العمل بالقرآن

حين يغيب العمل بالقرآن نجد الكثير من المظاهر السلبية، ومنها:

• فصل الدين عن الحياة

• انتشار الظلم والفساد

• شيوع الفقر رغم كثرة الموارد

• تخلف فكري وأخلاقي

• غياب القدوة الصالحة

• الانسلاخ عن الهوية الإيمانية

نماذج من الواقع المعاصر

لقد ظهرت في بعض المجتمعات حركات إصلاحية تبنّت العمل بالقرآن كمنهاج تغيير، فشهدت تغييرًا جذريًا في بنية المجتمع. على سبيل المثال، المبادرات القرآنية في التعليم الأخلاقي، ومشاريع العدالة المستندة إلى الشريعة، وحركات نشر القيم بين الشباب المستلهمة من القرآن، كلها دلائل على أن العودة إلى القرآن ليست شعارًا، بل مفتاح نهضة.

الخاتمة

العمل بالقرآن ليس خيارًا إضافيًا في حياة المسلم، بل هو جوهر الإيمان، وأساس النجاة، ومحور النجاح الفردي والمجتمعي. وكلما ارتفع المسلمون في درجات العمل بالقرآن، اقتربوا من موقع الخلافة في الأرض الذي أراده الله لهم، وحققوا دورهم كشهود على الناس. وإن أعظم ما يمكن أن يُقال عن إنسان: “كان قرآنيًا في حياته، كما كان النبي ﷺ قرآنًا يمشي على الأرض.”

المراجع

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم

2. الإمام النووي، رياض الصالحين