في عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا يومًا بعد يوم، أصبحت القدرة على العثور على الأشخاص المناسبين للتواصل والعمل وبناء العلاقات الشخصية والاجتماعية والمهنية ضرورة لا غنى عنها. فالعلاقات الإيجابية، سواء كانت صداقة أو شراكة أو زمالة، تلعب دورًا محوريًا في تعزيز جودة الحياة وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي. لكن الوصول إلى هؤلاء الأشخاص لا يتم عن طريق الصدفة فقط، بل هو نتيجة لعملية واعية تتطلب وعيًا بالذات، وفهمًا للسياقات الاجتماعية، وتوظيفًا لمهارات التفاعل الإنساني بشكل ذكي ومدروس.
العديد من الأفراد يواجهون تحديات مستمرة في تكوين علاقات ذات معنى، سواء في محيطهم العائلي أو المهني أو الاجتماعي، وذلك نتيجة لعدة عوامل، من بينها ضعف مهارات التواصل، أو عدم الوضوح في القيم والأهداف، أو الاعتماد على الانطباعات السطحية. لذا فإن هذا المقال يقدم أربع نصائح جوهرية، مستندة إلى أسس نفسية واجتماعية وسلوكية مدعومة بأبحاث، تساعد أي فرد على تحسين قدرته على اكتشاف الأشخاص الذين يتناغمون مع قيمه وطموحاته، ويشكلون إضافة حقيقية لحياته.
1. ابدأ بفهم ذاتك أولًا
القاعدة الذهبية للعثور على الأشخاص المناسبين هي أن تبدأ بفهم من تكون، لأنك لن تستطيع معرفة من هو المناسب لك إن لم تكن تعرف ما الذي تبحث عنه تحديدًا. فهم الذات يشمل معرفة القيم الشخصية، والاحتياجات العاطفية، والحدود النفسية، والأساليب المفضلة في التواصل والتفاعل. الأفراد الذين يمتلكون وعيًا ذاتيًا عاليًا يكونون أكثر قدرة على التمييز بين العلاقات المفيدة والضارة، ويستطيعون التفاعل بمرونة دون الوقوع في أنماط العلاقات السامة أو المعتمدة على التبعية.
هذا الوعي لا يأتي من فراغ، بل يتطلب التأمل الذاتي المستمر، والتغذية الراجعة الصادقة من الآخرين، والانفتاح على التجربة والخطأ. ينصح علماء النفس باستخدام أدوات تحليل الشخصية مثل مقياس “مايرز-بريغز” (MBTI) أو “الخمس سمات الكبرى” (Big Five) لتعزيز هذا الفهم، بالإضافة إلى كتابة اليوميات، والتأمل الواعي (Mindfulness) الذي يساعد على إدراك المشاعر والدوافع الداخلية بشكل دقيق.
2. حدد البيئة التي تنسجم مع قيمك
العلاقات الإنسانية تنشأ داخل سياقات اجتماعية وثقافية محددة، وبالتالي فإن اختيار البيئة المناسبة يلعب دورًا حاسمًا في زيادة فرص لقاء الأشخاص المنسجمين معك. على سبيل المثال، إن كنت تقدر التبادل الثقافي، فإن مشاركتك في أنشطة ثقافية أو مجموعات للقراءة أو التطوع في منظمات دولية يمكن أن يقودك إلى أشخاص يشاركونك هذا الاهتمام. أما إن كنت تسعى إلى علاقات مهنية ذات قيمة، فحضور المؤتمرات، وورش العمل، والمنتديات المتخصصة يكون الخيار الأمثل.
في دراسة أجراها “مارك سنايدر” من جامعة مينيسوتا، وُجد أن الأفراد الذين يختارون التفاعل في بيئات تتفق مع ميولهم وشخصياتهم يكونون أكثر سعادة وأقل عرضة للقلق والاكتئاب. فالشخص الذي يحب الصدق والانفتاح، عندما يتواجد في بيئة يسودها النفاق والمجاملات السطحية، يشعر بالإرهاق العاطفي، ويفقد قدرته على بناء علاقات مستقرة وصادقة. لذا فإن انتقاء البيئة ليس ترفًا، بل استراتيجية حيوية.
3. طوّر مهارات التواصل والإنصات
التواصل الفعّال هو جسر العلاقات الإنسانية، ومن دونه تصبح أي محاولة لبناء علاقة صحية محكومًا عليها بالفشل. التواصل لا يعني فقط القدرة على التعبير عن الذات بوضوح، بل يشمل أيضًا القدرة على الإنصات بتعاطف، وفهم مشاعر ودوافع الآخرين، والتفاعل معها بمرونة. الإنصات الفعّال هو مهارة مركبة، تتطلب الحضور الذهني، وتجنب المقاطعة، وقراءة الإشارات غير اللفظية.
أظهرت دراسات في علم النفس الاجتماعي أن الأشخاص الذين يُظهرون تعاطفًا وإنصاتًا صادقًا، يجذبون إليهم الآخرين بسرعة أكبر، ويُنظر إليهم على أنهم جديرون بالثقة والاحترام. كما أن هذه المهارات تسهم في تقليل سوء الفهم، وتعزز من جودة العلاقة على المدى الطويل. ومن التقنيات المهمة في هذا السياق استخدام أساليب “التواصل غير العنيف” (Nonviolent Communication) التي وضعها “مارشال روزنبرغ”، والتي تركز على التعبير عن الاحتياجات بطريقة تحترم الطرف الآخر دون عنف أو اتهام.
4. قيّم العلاقات بشكل دوري وضع حدودًا صحية
حتى بعد العثور على الأشخاص الذين يبدو أنهم يتماشون معك، فإن الحفاظ على علاقات صحية يتطلب وعيًا مستمرًا ومراجعة دورية. ليست كل علاقة تبدأ بشكل إيجابي تستمر كذلك، والعكس صحيح. من هنا تأتي أهمية التقييم الدوري للعلاقات، من حيث مدى التوازن بين العطاء والأخذ، ومدى التوافق مع القيم الشخصية، ومدى شعورك بالأمان والدعم والاحترام في هذه العلاقة.
وضع الحدود الصحية أيضًا هو جانب محوري في العلاقات الناجحة. الشخص الذي لا يعرف كيف يقول “لا” عندما يشعر بالاستغلال، أو الذي يتغاضى عن التجاوزات المتكررة، يعرض نفسه لإرهاق نفسي واجتماعي شديد. الحدود لا تعني الانفصال أو الانغلاق، بل هي تعبير عن احترام الذات، وعن تنظيم العلاقة بشكل يحفظ كرامة الطرفين.
ينصح الخبراء باستخدام إطار “الدوائر الاجتماعية” (Social Circles) لتحديد درجة القرب العاطفي لكل علاقة، بحيث يتم التمييز بين العلاقات الحميمة، والعلاقات العامة، والعلاقات الطارئة، وهذا يسهل إدارة الطاقات العاطفية بشكل أكثر فاعلية.
جدول توضيحي: مقارنة بين العلاقات الصحية وغير الصحية
| العنصر | العلاقات الصحية | العلاقات غير الصحية |
|---|---|---|
| التوازن بين الأخذ والعطاء | متوازن | غير متوازن (استغلال أو تبعية) |
| التواصل | صادق، مفتوح، ومحترم | سطحي، موجه للسيطرة أو التلاعب |
| الحدود | واضحة ومحترمة | مهملة أو متعدى عليها باستمرار |
| التأثير على الصحة النفسية | دعم، طمأنينة، ونمو | توتر، قلق، أو شعور بالدونية |
| درجة الثقة | مرتفعة ومستقرة | متقلبة أو ضعيفة |
في ضوء هذه النصائح الأربع، يصبح من الممكن لأي شخص أن يعزز من قدرته على بناء شبكة علاقات إنسانية تتسم بالإيجابية والاستدامة. فالمسألة لا تتعلق فقط بـ “العثور” على الأشخاص المناسبين، بل ببنائهم من خلال الوعي، والتفاعل الإيجابي، والاستمرارية في التطوير الذاتي والعلاقاتي. العلاقات الجيدة هي استثمار طويل الأمد، تبدأ من الذات وتنمو في سياق من الوعي والنية الصادقة.
المراجع
-
Snyder, M., & Ickes, W. (1985). Personality and social behavior. Annual Review of Psychology, 36, 669–704.
-
Rosenberg, M. (2003). Nonviolent Communication: A Language of Life. PuddleDancer Press.
-
Goleman, D. (1995). Emotional Intelligence. Bantam Books.
-
Baumeister, R. F., & Leary, M. R. (1995). The need to belong: Desire for interpersonal attachments as a fundamental human motivation. Psychological Bulletin, 117(3), 497–529.
