العاطفة المظلومة وأثرها

العاطفة المظلومة: عندما يُساء فهم أحد أقوى دوافع الإنسان

في خضم الزحام اليومي للواجبات والمهام والانشغالات، وفي قلب المجتمعات التي تُمجّد العقل والمنطق وتحطّ من قدر المشاعر، تظل “العاطفة” تعاني تهميشًا وتجاهلاً ممنهجًا، وكأنها عنصر ثانوي أو عائق في طريق التقدم. هذا الظلم المتراكم على العاطفة لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يمتد إلى المؤسسات، والنظم التربوية، وأساليب التنشئة، وحتى المنظومات الثقافية التي تفضل الحياد العاطفي على الانخراط الوجداني، بحجة النضج أو الاحترافية. في هذا المقال، نغوص عميقاً في فهم طبيعة العاطفة، ونسلط الضوء على أسباب تهميشها، وندرس انعكاسات هذا الظلم على الفرد والمجتمع، مستندين إلى علم النفس، وعلم الأعصاب، والفلسفة، والتجارب الإنسانية المتنوعة.

العاطفة: جوهر إنساني لا غنى عنه

العاطفة ليست ترفًا شعوريًا يمكن الاستغناء عنه أو التحكم فيه بإرادة محضة، بل هي جزء بنيوي من النفس البشرية. تظهر الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب أن النظام الحوفي (Limbic System) في الدماغ، المسؤول عن العواطف، يتفاعل بشكل دائم مع قشرة الدماغ الأمامية المسؤولة عن المنطق وصنع القرار. هذا التفاعل يُثبت أن المشاعر ليست في تضاد مع التفكير، بل هي مكملة له، وتدخل بشكل مباشر في تشكيل قرارات الإنسان اليومية، من أبسطها إلى أعقدها.

في الواقع، ثبت أن من يعاني من تلف في مناطق الدماغ المسؤولة عن العواطف يفقد القدرة على اتخاذ قرارات سليمة، رغم بقاء مهاراته المنطقية والحسابية سليمة. هذه الحقيقة تُدحض الاعتقاد الشائع بأن المشاعر تقود إلى الضعف، وتثبت أنها عامل قوة معرفية وسلوكية.

أوجه الظلم الواقعة على العاطفة

1. التنشئة القمعية للعاطفة

منذ الطفولة، يتعرض الإنسان لرسائل مباشرة وغير مباشرة تقلل من أهمية مشاعره. يُطلب من الطفل أن “لا يبكي”، أو أن “يكون قويًا” بمعنى الكبت، وليس التعبير المتزن. ويُثاب الطفل حين يُظهر ضبطًا عاطفيًا يشبه الجمود، ويُعاقب حين ينفجر بالبكاء أو الغضب أو حتى الفرح المفرط. هذه التنشئة تؤسس لعلاقة مأزومة بين الإنسان ومشاعره، فيكبر وهو يشعر بالخجل من عواطفه، ويراها نقطة ضعف يجب إخفاؤها.

2. التقليل من العاطفة في الخطاب العلمي والمؤسسي

العقلانية المفرطة التي تسود في الأوساط الأكاديمية والإدارية تُقصي العاطفة من الحوار. فيتم اختزال الإنسان في أرقامه، وإنجازاته، وقدرته على التحليل، دون مراعاة احتياجاته الوجدانية. تُصبح المشاعر في هذا السياق “عائقًا” أمام الإنتاجية، ويتم وصف من يُظهر تعاطفًا أو انفعالًا بأنه غير مهني، ما يُسهم في بناء ثقافة باردة تنفر من الإنسان الحقيقي لصالح “الروبوت الاجتماعي”.

3. التمييز الجندري في التعامل مع العاطفة

في بعض الثقافات، تُعتبر المشاعر “أنثوية”، في حين يُنظر إلى ضبط النفس والعقلانية باعتبارها “رجولية”. هذا التمييز لا يُظلم المرأة فحسب، بل يقيّد الرجل أيضاً، إذ يُجبر على دفن مشاعره وتبني صورة خشنة لا تعبّر عن إنسانيته. هذا الخلل يُنتج أجيالًا تعاني من انفصال داخلي بين ما يشعرون به فعلاً وما يُسمح لهم بالتعبير عنه.

العاطفة بوصفها محركًا للتقدم الإنساني

ليست العاطفة فقط وسيلة للشعور، بل هي قوة دافعة خلف أعظم الإنجازات الإنسانية. من دون الشغف، لا يوجد إبداع. من دون الرحمة، لا يوجد إصلاح اجتماعي. من دون الحب، لا يوجد التزام طويل الأمد. ومن دون الحزن، لا توجد مراجعة للذات ولا تعلّم من الأخطاء. كل ما هو إنساني يتغذى من ينبوع المشاعر.

• الإبداع والفن: لا توجد قصيدة، أو لوحة، أو سيمفونية، أو رواية خالدة، لم تنبع من مشاعر عميقة. الفن هو التعبير الأسمى عن العاطفة.

• التغيير المجتمعي: الحركات الحقوقية لم تولد من كتب القانون، بل من ألم إنساني حقيقي وغضب مشروع من الظلم، قاد إلى نضال مستمر.

• القيادة الأخلاقية: القادة الأكثر تأثيرًا هم أولئك الذين امتلكوا قدرة على الإحساس بجراح الآخرين، وتحويل مشاعرهم إلى عمل مؤثر.

عواقب تهميش العاطفة

1. الأزمات النفسية

القمع المزمن للمشاعر يؤدي إلى أمراض نفسية خطيرة كالاكتئاب والقلق واضطرابات الهوية. الشخص الذي لا يُمنح مساحة آمنة للتعبير عن عواطفه، يبدأ بتطوير نمط دفاعي سلبي تجاه الحياة، يتراوح بين الانفصال العاطفي الكامل أو الانفجار المتكرر غير المنضبط.

2. انهيار العلاقات الإنسانية

الروابط بين الناس لا تُبنى على المعطيات العقلانية فقط، بل على الشعور بالحب، والاهتمام، والتعاطف. حين تُمنع العاطفة من الحضور، تتحول العلاقات إلى تعاقدات جافة خالية من المعنى، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الطلاق، والانفصال الأسري، والعزلة.

3. فقدان البوصلة الأخلاقية

العاطفة، خصوصًا الرحمة والندم، تلعب دورًا جوهريًا في التقييم الأخلاقي للسلوك. من دون الشعور، يفقد الإنسان قدرته على التعاطف، ويُصبح أكثر ميلًا للسلوكيات العدوانية أو النفعية البحتة.

استعادة الاعتبار للعاطفة

إعادة الاعتبار للعاطفة لا يعني الوقوع في فخ العاطفية غير المنضبطة، بل يتطلب تحقيق توازن صحي بين المشاعر والمنطق، بما يخدم النمو الشخصي والاجتماعي:

الذكاء العاطفي كمهارة جوهرية

ظهر مصطلح “الذكاء العاطفي” في علم النفس الحديث ليُعيد الاعتبار للمشاعر بوصفها مكوناً لا يقل أهمية عن الذكاء المنطقي أو اللغوي. يشير الذكاء العاطفي إلى قدرة الإنسان على إدراك مشاعره، وفهمها، وتنظيمها، والتعامل مع مشاعر الآخرين بتعاطف ومهارة.

وفقًا لدانييل جولمان، يتضمن الذكاء العاطفي خمسة أبعاد رئيسية:

1. الوعي الذاتي: معرفة الشخص لمشاعره وفهمه لها.

2. الضبط الذاتي: التحكم في الاستجابات الانفعالية.

3. الدافعية الذاتية: تحويل المشاعر إلى طاقة إيجابية.

4. التعاطف: فهم مشاعر الآخرين والاستجابة لها.

5. المهارات الاجتماعية: بناء علاقات قائمة على الوعي الوجداني.

هذه الأبعاد تشكّل البنية التحتية للسلوك الإنساني المتزن، وتُعتبر اليوم من المهارات الأساسية في التعليم والقيادة والنجاح الشخصي.

نحو ثقافة إنسانية تحتفي بالعاطفة

لكي يتجاوز الإنسان هذه النظرة القاصرة للعاطفة، لا بد من تبني ثقافة جديدة تعيد للوجدان اعتباره، وتُقدّر المشاعر بوصفها لغة إنسانية راقية لا تقل عمقًا عن الفلسفة ولا نجاعةً عن العلم. في هذه الثقافة:

• لا يُستحي من البكاء.

• لا يُتّهم المحب بالمبالغة.

• لا يُقصى الغاضب المشروع.

• لا يُستهزأ بالحساس.

• لا يُعاقب من يفصح عن مشاعره.

بل يُحتفى بكل ذلك كعلامات على الحياة الداخلية الغنية والوعي المتكامل بالنفس.

الخاتمة

العاطفة المظلومة ليست مجرد قضية نفسية فردية، بل هي قضية حضارية تمسّ جوهر نظرتنا للإنسان. حين نعيد الاعتبار للعاطفة، نعيد صياغة علاقتنا بذواتنا، وبالآخرين، وبالحياة نفسها. فالمجتمع الذي يُعلي من شأن الشعور، مثلما يُعلي من شأن التفكير، هو المجتمع الذي يحقق التوازن بين القوة والرحمة، وبين الإنجاز والمعنى، وبين الإنسان والعالم. لا سبيل إلى الإنسانية الكاملة إلا برد الاعتبار إلى العاطفة، ذاك العنصر الحيوي الذي لا تكتمل الذات بدونه، ولا تُزهر الحياة في غيابه.

المراجع:

• Goleman, Daniel. Emotional Intelligence. Bantam Books, 1995.

• Damasio, Antonio. Descartes’ Error: Emotion, Reason, and the Human Brain. Penguin Books, 2005.