الطلاق في الإسلام: هل هو هضم لحقوق المرأة كما يراه البعض؟

مقدمة

لطالما كان الطلاق في المجتمعات الإسلامية محط جدلٍ واسع بين من يراه نظامًا عادلًا لحماية الأسرة وضمان الكرامة الفردية، وبين من يعتبره أداةً يستخدمها الرجل للهيمنة وفرض سلطته على المرأة. هذا النقاش تعمّق بشكل خاص في العصر الحديث، حيث أصبحت قضايا حقوق المرأة في مقدمة الاهتمامات الاجتماعية والحقوقية، وصارت العديد من الأصوات تُنادي بإعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالطلاق، باعتبارها لا تواكب ما حققته المرأة من مكانة في العصر الراهن. غير أن الإشكالية الأساسية في هذا النقاش تكمن في الخلط بين ما هو شرعي نصًا وما هو اجتماعي ممارسةً، وما بين الفهم الخاطئ للنصوص وتطبيقها المغلوط، وما ينتج عن ذلك من انطباعات سلبية قد تُشوّه صورة التشريع الإسلامي ذاته.

التأصيل الشرعي للطلاق في الإسلام

الطلاق في الإسلام ليس تشريعًا عبثيًا، بل هو نظام قانوني منضبط ينظم إنهاء العلاقة الزوجية حين تتعذر استمراريتها، ويهدف أساسًا إلى رفع الضرر وحماية الكرامة الإنسانية للطرفين. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “وإن يتفرقا يُغنِ الله كُلًّا من سَعَتِه” [النساء: 130]، مما يدل على أن الطلاق ليس نهاية كارثية، بل قد يكون مخرجًا رحيمًا عند استحالة استمرار الحياة الزوجية.

الطلاق في أحكامه وتشريعاته لا يُقَرّ كأمر محبذ، بل كخيار اضطراري. فقد ورد في الحديث الشريف: “أبغض الحلال إلى الله الطلاق”، وهو نص يعكس البعد القيمي في النظرة الإسلامية للطلاق، إذ يُعتبر خيارًا أخيرًا بعد استنفاد جميع وسائل الإصلاح والتفاهم.

الإسلام لم يجعل الطلاق حقًّا حصريًا بيد الرجل دون مبرر أو ضوابط، بل وضع له شروطًا وإجراءات تضمن العدالة للطرفين، وتشترط استشارة العقلاء، ومحاولة الإصلاح، واعتبار عدة المرأة، وإعطائها حقوقها المادية والمعنوية.

صور متعددة لإنهاء الزواج

إنهاء العلاقة الزوجية في الشريعة الإسلامية لا يتوقف عند الطلاق الرجعي الذي يُباشره الزوج، بل توجد عدة صور تمكّن المرأة من إنهاء العلاقة متى ما ثبت لها وجود ضرر أو إخلال بالمعاشرة أو التعسف، ومنها:

1. الخلع

الخلع هو حق للمرأة تطالب به إذا كرهت العيش مع زوجها دون أن يكون ثمة ضرر مباشر واقع عليها، وهو نوع من الفسخ الذي يتم بناء على رغبة الزوجة مقابل تنازل مالي (عادة عن المهر). وقد ورد في السنة أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: “يا رسول الله، لا أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكنني أكره الكفر في الإسلام”، ففارقها عليه الصلاة والسلام بطلبها.

2. الفسخ القضائي

وفيه تلجأ المرأة إلى القاضي لطلب إنهاء الزواج إذا ثبت وقوع ضرر مادي أو معنوي، مثل الإيذاء الجسدي أو الامتناع عن النفقة أو الغياب الطويل أو الإدمان أو غيرها من الأسباب التي تُثبت استحالة استمرار العشرة.

3. اشتراط العصمة

يحق للمرأة أن تشترط على زوجها أن تكون العصمة بيدها ضمن عقد الزواج، ما يعني أن يكون لها حق تطليق نفسها بنفسها دون الرجوع إليه، وهذا شرط معتبر شرعًا في حال تم قبوله من الطرفين.

نظرة الإسلام لمكانة المرأة بعد الطلاق

الإسلام يحرص على صيانة كرامة المرأة في كل مرحلة من مراحل الطلاق، سواء أثناء عدة الطلاق أو بعدها، ويضمن لها حقوقًا مادية واجتماعية ونفسية لا تقل عن حقوق الرجل، بل في بعض الأحيان تتجاوزها لما قد تتعرض له من ضعف بعد الانفصال. ومن هذه الحقوق:

1. النفقة خلال العدة

المرأة المطلقة طلاقًا رجعيًا تستحق النفقة والسكنى طيلة فترة العدة، وكذلك المطلقة طلاقًا بائن إن كانت حاملاً، لقوله تعالى: “وإن كنّ أولاتِ حملٍ فأنفِقوا عليهنّ حتى يضعنَ حملهنّ” [الطلاق: 6].

2. التمكين من السكن

الإسلام ألزم الرجل بتوفير سكن للمطلقة خلال فترة العدة، وخصوصًا إذا كانت حاملاً أو لديها أولاد، حتى لا تُرمى في الشارع ولا تُذلّ بعد الطلاق.

3. حضانة الأطفال

من أبرز تجليات عدالة الإسلام بعد الطلاق، أن الحضانة تُمنح للمرأة، لأن الأصل في مصلحة الطفل أن يبقى في حضن الأم، ما دامت صالحة للحضانة، مع تحميل الأب مسؤولية النفقة والتعليم والتطبيب.

4. التعويض (المتعة)

ورد في القرآن الكريم الأمر بتعويض المطلقة بما يعرف بـ”المتعة”، وهو مال يُمنح لها جبراً لخاطرها بعد الطلاق، وخصوصًا إذا طُلّقت دون مسوغ واضح. قال الله تعالى: “ومتعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين” [البقرة: 236].

أسباب سوء الفهم تجاه الطلاق في الإسلام

رغم هذه الضمانات والتشريعات العادلة، إلا أن هناك من يرى أن الطلاق في الإسلام أداة قمع للمرأة. ويرجع ذلك إلى مجموعة من الأسباب، بعضها يرتبط بالتطبيق، وبعضها بالفهم الخاطئ للنصوص، وبعضها بالسياق الاجتماعي والثقافي الذي يشوّه المفاهيم الشرعية.

1. الممارسات الاجتماعية الخاطئة

في الكثير من المجتمعات الإسلامية، يتم تطليق النساء تعسفًا دون تبييت نية للعدل أو إصلاح، ويُحرمْن من حقوقهن الشرعية، ويتم الضغط عليهن للتنازل عن الحضانة أو النفقة، وهو أمر لا يمت للإسلام بصلة، بل هو انعكاس لتقاليد ذكورية تلبس لبوس الدين.

2. التجهيل بأحكام الطلاق

قلة الوعي بالحقوق والواجبات المنصوص عليها شرعًا يؤدي إلى تضليل المرأة، ويجعلها غير قادرة على المطالبة بحقوقها القانونية. كما أن بعض الرجال يجهلون ضوابط الطلاق ويستعملونه كأداة تهديد لا كوسيلة حل نهائي.

3. التشهير بالمطلقة

تعاني الكثير من النساء من نظرة المجتمع السلبية للمطلقة، حيث يتم إلقاء اللوم عليها وتحميلها مسؤولية فشل العلاقة، وهي نظرة جاهلية لا تمت بصلة لروح الشريعة التي ترى أن الطلاق قرار مشروع عند الضرورة، وليس عارًا أو إخفاقًا.

4. إقصاء المرأة من حق الاختيار

في بعض الحالات، تُحرم المرأة من إمكانية الطلاق أو الخلع، إما لجهلها بالقنوات الشرعية التي يمكن أن تسلكها، أو لوجود ضغوط أسرية ومجتمعية تمنعها من اتخاذ قرار الانفصال، حتى لو كان بقاؤها في العلاقة يهدد صحتها النفسية والجسدية.

مقارنة بين الطلاق في الإسلام والأنظمة الغربية

لفهم عدالة الطلاق في الإسلام، من الضروري مقارنته بما هو معمول به في النظم الوضعية، خاصة في الأنظمة الغربية. فبينما يُنتقد الطلاق في الإسلام على أنه “هضمٌ لحقوق المرأة”، نجد أن الأنظمة الوضعية لا تخلو هي الأخرى من عيوب قد تكون أشد وطأة.

في النظم الغربية، الطلاق عادة ما يكون مكلفًا نفسيًا وماديًا، ويتطلب إجراءات قضائية طويلة ومعقدة، وفي بعض الحالات تُجبر المرأة على تقاسم ممتلكاتها، وقد تخسر حضانة أطفالها لأسباب مادية أو قانونية بحتة.

أما في الإسلام، فالعلاقة الزوجية تُبنى على الميثاق الغليظ، ويكون إنهاؤها بسيطًا في شكله لكن مشروطًا في مضمونه بالعدالة والرحمة، مما يجعل منه نظامًا متوازنًا يراعي الاحتياجات النفسية والاجتماعية للطرفين.

الطلاق كوسيلة لحماية المرأة وليس لهضم حقوقها

الطلاق في الإسلام لا يمكن النظر إليه كأداة لاضطهاد المرأة أو تقليص دورها، بل هو في جوهره تشريع يهدف إلى رفع الظلم عنها متى ما استحكم الضرر، وهو حل نهائي حين تستنفد كل الوسائل الأخرى. لذلك فإن الفهم الصحيح لهذا النظام يقتضي الانطلاق من النصوص الشرعية ومن مقاصد الشريعة، لا من الممارسات الثقافية المشوهة.

إن الإسلام، بما يملكه من منظومة متكاملة تنظم الحياة الأسرية، لا يهدف إلى التفريق بين الزوجين إلا عندما يكون ذلك أهون الشرين، وفي كل الأحوال يبقى معيار العدالة والرحمة هو الأساس، بعيدًا عن المفهوم الخاطئ الذي يرى الطلاق كوسيلة انتقامية.

خاتمة

لا يمكن القول بأن الطلاق في الإسلام هو هضم لحقوق المرأة إلا إذا أُخرج من سياقه الشرعي الصحيح، وتم تطبيقه خارج الضوابط والأخلاق التي أرستها الشريعة الإسلامية. أما حين يُمارس كما أراده الله ورسوله، فإنه يبقى نظامًا راقيًا يُقدّم مخرجًا كريمًا للعلاقة الزوجية، ويمنح المرأة مظلة من الحقوق التي لا تتوفر حتى في بعض القوانين المعاصرة.

المصادر والمراجع

• ابن القيم، “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، دار الكتب العلمية.

• القرطبي، “الجامع لأحكام القرآن”، دار الفكر.