قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”: دراسة موسعة في المفهوم والتطبيقات الفقهية

تُعد قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” من القواعد الكبرى في الفقه الإسلامي، وهي قاعدة عامة تدخل ضمن نطاق ما يُعرف بالفقه المقاصدي، حيث تسعى إلى تحقيق مبدأ رفع الحرج ودفع المشقة عن المكلفين في حالات الضرورة، دون الإخلال بجوهر الشريعة الإسلامية. هذه القاعدة تتمتع بأهمية بالغة في مجالات التشريع، والإفتاء، والقضاء، وتعتبر من المعايير الرئيسية التي يعتمد عليها الفقهاء في معالجة النوازل والمستجدات التي تطرأ على حياة الناس، لا سيما في الظروف الاستثنائية والطارئة.

أصل القاعدة ومكانتها في علم أصول الفقه

تنتمي قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” إلى طائفة من القواعد الفقهية التي اتفق العلماء على تسميتها بـ”القواعد الفقهية الكبرى”، إلى جانب قواعد أخرى مثل: “اليقين لا يزول بالشك”، “الضرر يزال”، “العادة محكّمة”، و”المشقة تجلب التيسير”. وتُعد هذه القاعدة تجلياً واضحاً لمقاصد الشريعة الإسلامية، التي تهدف إلى الحفاظ على الضروريات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال.

يرجع أصل القاعدة إلى نصوص شرعية كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية، منها قول الله تعالى:

﴿فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه﴾ [البقرة: 173]

وقوله سبحانه: ﴿وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه﴾ [الأنعام: 119]

كما ثبت عن النبي ﷺ في صحيح السنة أنه قال: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه”.

تعريف الضرورة والمحظور في السياق الفقهي

لفهم القاعدة بدقة، لا بد من الوقوف عند مفهوم الضرورة والمحظور في الاصطلاح الفقهي:

• الضرورة: هي الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى حدٍّ إذا لم يتناول المحظور هلك أو قارب الهلاك، أو يلحقه أذى بالغ في بدنه أو ماله أو عرضه أو دينه. وهي أضيق من الحاجة، إذ أن الحاجة لا تبلغ درجة الهلاك أو الضرر البالغ.

• المحظور: هو كل ما نهى الشارع عنه تحريماً صريحاً، سواء في أصل العبادة أو في المعاملات أو في الأحوال الشخصية، كأكل الميتة، أو الربا، أو كشف العورة، أو الكذب، أو غيرها من المحرمات.

وبناءً على هذا، فإن القاعدة تقرر أن الفعل المحظور شرعاً قد يصبح مباحاً – بل واجباً أحياناً – إذا بلغ الإنسان حالة الضرورة، بشرط أن يكون الاضطرار حقيقياً، لا متوهماً، وأن يقتصر في ارتكاب المحظور على قدر الضرورة فقط، وألا توجد وسيلة مباحة تحقق الغرض نفسه.

شروط تطبيق القاعدة

لقد وضع الفقهاء شروطاً دقيقة لتطبيق قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، حماية لها من التوسع المفرط أو الاستخدام غير المشروع، وهذه الشروط يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1. تحقق الضرورة حقيقةً أو غلبة الظن بوجودها: أي أن يكون الإنسان في موقف حرج فعلي، لا مجرد شك أو احتمال بعيد.

2. انعدام البديل المباح: لا يجوز اللجوء إلى المحظور إلا إذا تعذر الوصول إلى ما يحقق الحاجة من طريق مباح.

3. أن يكون المحظور أقل ضرراً من تركه: أي أن ارتكابه يحقق حفظ الضروريات الشرعية، وعدم فعله يؤدي إلى هلاك النفس أو تلف المال أو نحو ذلك.

4. أن يُقتصر في ارتكاب المحظور على قدر الضرورة: بمعنى أن لا يُتجاوز القدر اللازم، فإذا زال سبب الضرورة، زال الحكم.

5. ألا يترتب على ارتكاب المحظور ضرر أعظم: أي أن لا يؤدي إلى فتنة أو خلل أكبر في المجتمع أو النظام العام.

تطبيقات فقهية على القاعدة

لقد وجدت قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” تطبيقاً واسعاً في أبواب كثيرة من الفقه، منها العبادات، والمعاملات، والجنايات، والطب، والأغذية، والسياسة الشرعية، ومن أبرز هذه التطبيقات:

1. أكل الميتة في حال المجاعة

من أشهر الأمثلة التي يُستشهد بها في هذا الباب ما لو وقع الإنسان في مجاعة حادة ولم يجد ما يسد رمقه إلا لحم ميتة، فيجوز له أن يأكل منها ما يدفع عنه الهلاك، على أن لا يزيد عن ذلك. وهذا مستند إلى النص القرآني الصريح الذي جاء في مواضع عدة من القرآن الكريم.

2. التداوي بالمحرمات عند عدم وجود البديل

إذا تعين دواء محرم لإنقاذ نفس من الهلاك، كأن لا يوجد علاج لمرض معين إلا عقار يحتوي على مادة محرمة شرعاً كالخنزير أو الكحول، جاز استعماله إذا قرر أهل الخبرة من الأطباء الثقات أن لا بديل له. وهذا موضع دقيق من مواضع التطبيق، ويشترط فيه تحقق الضرورة وثبوت فعالية الدواء.

3. إفشاء السر الطبي أو المهني عند وجود خطر محدق

الأصل في الأسرار أنها أمانات لا يجوز إفشاؤها، إلا أن الضرورة قد تقتضي كشفها، كما في حال اكتشاف الطبيب مرضاً معدياً خطيراً قد يؤدي إلى تهديد الصحة العامة، أو كشف محامٍ عن معلومات تمنع وقوع جريمة. في هذه الحالات يجوز – بل قد يجب – الإفشاء.

4. الإكراه والاضطرار في العقود والتصرفات

إذا أُكره شخص على إجراء عقد أو تصرف محظور، كبيع ممتلكاته تحت التهديد بالقتل، فإن الشريعة ترفع عنه الإثم، ويبطل العقد من حيث الأصل، لأن الضرورة دفعته إلى ذلك، وهو غير مختار فيه.

5. استعمال الأموال العامة في أوقات الأزمات

في حال تعرض دولة أو مجتمع لكارثة طبيعية أو وباء مميت، واحتاجت السلطات إلى استخدام أموال الزكاة أو الوقف أو غيرها من الموارد المقيدة لإنقاذ الناس، جاز التصرف فيها وفقاً للضوابط التي يقررها الفقهاء، وهذا يدخل ضمن تطبيقات القاعدة أيضاً.

الفرق بين الضرورة والحاجة في الفقه

من القضايا ذات الأهمية عند الحديث عن هذه القاعدة التمييز بين الضرورة والحاجة. فالحاجة، وإن لم تصل إلى حدّ الضرورة، قد تكون مبيحة لبعض المحظورات أو موجبة لبعض الرخص، خاصة إذا كانت حاجة عامة، تمس طائفة كبيرة من الناس.

وقد نص الفقهاء على أن الحاجة العامة تُنزّل منزلة الضرورة في بعض الحالات، كما هو الحال في جواز العمل في بعض الوظائف المختلطة في حال تعذر غيرها، أو جواز الاستعانة بوسائل قد تحوي بعض التجاوزات التقنية التي لا يمكن تجنبها إلا بحرج بالغ.

القيود الأخلاقية والضوابط المقاصدية في التطبيق

رغم ما تتيحه قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” من مرونة في التشريع، فإن الشريعة لم تترك الأمر مفتوحاً على مصراعيه، بل أحاطت هذه القاعدة بجملة من الضوابط الأخلاقية والمقاصدية لضمان عدم الانحراف، ومن أبرز هذه الضوابط:

• مراعاة النية: يجب أن يكون الدافع إلى ارتكاب المحظور هو الضرورة لا الهوى أو التلذذ بالمحرم.

• العودة إلى الأصل عند زوال الضرورة: فور زوال الخطر أو الحاجة، يعود الحكم إلى أصله من التحريم.

• عدم التوسع في فهم الضرورة بما يفضي إلى التفلت من الشريعة: أي أن لا تُستخدم القاعدة كذريعة لانتهاك المحرمات تحت ذرائع واهية.

الجدول الآتي يلخص شروط وأمثلة تطبيق قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”

أهمية القاعدة في العصر الحديث

تبرز أهمية هذه القاعدة في عصرنا الحالي بشكل أكثر وضوحاً نظراً لتعدد المستجدات والتحديات المعاصرة، سواء في مجال الطب الحديث، أو الأمن الغذائي، أو الأزمات السياسية والاقتصادية، أو التطورات التكنولوجية. فبفضل هذه القاعدة، استطاع الفقه الإسلامي أن يُثبت مرونته العالية وقدرته على التفاعل مع الواقع دون أن يتخلى عن مبادئه. ومن هنا فإن قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” تمثل أداة فقهية فعالة لتحقيق مقاصد الشريعة مع الحفاظ على إنسانية التشريع وعدالته وواقعيته.

المصادر والمراجع

• الشاطبي، “الموافقات في أصول الشريعة”، دار ابن عفان، الطبعة الثانية.

• الزرقا، أحمد، “شرح القواعد الفقهية”، دار القلم، دمشق.