أهم الحقائق حول الصيام والرضاعة الطبيعية

تُعد فترة الرضاعة الطبيعية من أهم المراحل في حياة الأم والطفل على حد سواء، فهي تمثل الأساس الصحي لنمو الطفل وتطوره الجسدي والعقلي، كما تُشكل عاملاً مهماً في تعزيز المناعة وبناء العلاقة العاطفية بين الأم ورضيعها. وعندما يتزامن شهر رمضان المبارك مع هذه المرحلة الدقيقة، يبرز تساؤل جوهري بين الأمهات المرضعات: هل يمكن الجمع بين الصيام والرضاعة الطبيعية دون التأثير سلباً على صحة الأم أو الرضيع؟ هذا التساؤل لا ينبع من فراغ، بل من إدراك عميق لحجم التحدي الجسدي الذي يتطلبه الصيام من جهة، والحاجة المستمرة لتغذية الرضيع من جهة أخرى.

تتناول هذه المقالة الموسعة أهم الحقائق الطبية، الدينية، الغذائية والفسيولوجية المتعلقة بالصيام أثناء الرضاعة الطبيعية، مدعومة بآراء المختصين وأحدث ما توصلت إليه البحوث الطبية في هذا المجال، مع التركيز على الجوانب العملية التي تساعد الأمهات على اتخاذ قرارات مدروسة ومتوازنة خلال هذا الشهر الكريم.

الرضاعة الطبيعية: احتياجات الأم والطفل الغذائية

الرضاعة الطبيعية عملية حيوية معقدة تتطلب من جسم الأم موارد كبيرة لإنتاج الحليب بتركيبة متوازنة وغنية بالعناصر الغذائية الضرورية لنمو الرضيع. يحتوي حليب الأم على الماء، البروتينات، الدهون، السكريات، المعادن والفيتامينات، إضافة إلى الأجسام المناعية التي تحمي الطفل من العدوى.

وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تحتاج الأم المرضعة إلى سعرات حرارية إضافية يوميًا تتراوح بين 400 و500 سعرة حرارية مقارنة بغير المرضعة. كما يُنصح بزيادة تناول السوائل بما لا يقل عن 3 لترات يوميًا للحفاظ على إدرار الحليب الطبيعي.

عند الصيام، تنقطع الأم عن الطعام والشراب لفترات تتراوح بين 12 إلى 16 ساعة يوميًا (وأحيانًا أكثر في بعض البلدان)، مما يُحدث تغييرات فسيولوجية قد تؤثر على التوازن الغذائي للجسم، ومستويات الطاقة، وإنتاج الحليب.

التأثيرات الفسيولوجية للصيام على الأم المرضعة

الصيام يُحدث مجموعة من التغييرات البيوكيميائية داخل الجسم، نذكر منها:

1. انخفاض مستوى الجلوكوز في الدم: الجلوكوز هو المصدر الأساسي للطاقة، وعند نقصه، يبدأ الجسم في استخدام مخزونه من الدهون والبروتين.

2. زيادة مستوى الكيتونات: نتيجة لتحلل الدهون، مما قد يؤدي إلى الشعور بالإرهاق والغثيان والدوار.

3. نقص الماء: يؤدي إلى الجفاف، ويؤثر بشكل مباشر على كمية الحليب المُنتجة.

4. نقص العناصر الدقيقة مثل الكالسيوم والمغنيسيوم، والتي تعتبر ضرورية لكل من الأم والرضيع.

هذه التغيرات لا تحدث بنفس الدرجة عند جميع النساء، بل تختلف حسب الحالة الصحية، التغذية، عدد ساعات الصيام، درجة حرارة الطقس، عمر الطفل، وكمية الحليب التي يستهلكها الرضيع.

تأثير الصيام على إنتاج الحليب وكميته

الدراسات التي تناولت العلاقة بين الصيام وإنتاج الحليب تُظهر نتائج متباينة. بعض الدراسات تؤكد أن:

• محتوى الحليب من المغذيات الكبرى مثل الدهون والبروتين لا يتأثر بشكل ملحوظ بالصيام، خاصة إذا تناولت الأم وجبات متكاملة بين الإفطار والسحور.

• كمية الحليب قد تنخفض قليلاً في حال عدم تعويض السوائل والطاقة بشكل كافٍ.

• الرضع الذين يعتمدون كلياً على الرضاعة الطبيعية قد يبدون علامات الجوع المتكرر إذا قلت كمية الحليب، وهو ما يستدعي الانتباه الفوري.

في المجمل، إذا كانت الأم تتمتع بصحة جيدة، وتتناول غذاءً متوازنًا بين الإفطار والسحور، فإن الجسم يستطيع التكيف في معظم الحالات، دون التأثير السلبي الكبير على الرضاعة.

الجفاف أثناء الصيام: الخطر الأكبر

يُعد الجفاف من أخطر ما يمكن أن يواجه الأم المرضعة أثناء الصيام، إذ يؤدي إلى:

• نقص في إنتاج الحليب.

• شعور دائم بالتعب والإرهاق.

• الصداع والدوخة.

• تركيز بولي مرتفع (علامة على احتباس السوائل).

• تشنجات عضلية.

• قلة التركيز.

لذلك من الضروري مراقبة علامات الجفاف والانتباه لها، خاصة في الأيام الحارة أو عند القيام بمجهود بدني كبير.

العوامل المؤثرة في قرار الصيام

ينبغي أن تتخذ الأم قرار الصيام بعد دراسة متأنية لعدة عوامل تؤثر مباشرة على قدرتها على الصيام دون التأثير على صحة رضيعها:

الرأي الشرعي في صيام المرضع

من الناحية الفقهية، الإسلام يراعي ظروف المرضع ويمنحها رخصة الفطر إذا خافت على نفسها أو على رضيعها، بناءً على قول الله تعالى:

“فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر” [البقرة: 184].

اتفق الفقهاء على أن المرضعة يجوز لها أن تفطر في رمضان إذا خشيت على نفسها أو على رضيعها، وتختلف كيفية القضاء والكفارة حسب المذهب الفقهي:

• بعض العلماء يرون أن عليها القضاء فقط.

• آخرون يرون أنه يلزم القضاء والكفارة (إطعام مسكين عن كل يوم).

• فريق ثالث يرى أن عليها الإطعام فقط دون قضاء، إذا كانت تخاف على الطفل وحده.

ينبغي للأم المرضعة أن تستشير طبيبًا مسلمًا أو أهل العلم لتحديد حالتها بدقة واتخاذ القرار المناسب.

نصائح غذائية مهمة للأم المرضعة الصائمة

للحد من تأثير الصيام على الرضاعة، ينبغي على الأم اتباع نظام غذائي ذكي ومتوازن بين الإفطار والسحور:

1. وجبة الإفطار:

• البدء بالماء والتمر لتعويض السكر والسوائل.

• شوربة دافئة خفيفة تساعد على ترطيب الجسم.

• طبق متوازن يحتوي على النشويات (أرز، خبز كامل)، البروتين (دجاج، لحم، بيض)، والخضروات.

• فواكه طازجة لتوفير الفيتامينات والمعادن.

2. وجبة خفيفة بين الإفطار والسحور:

• حفنة من المكسرات النيئة.

• زبادي أو كوب لبن.

• ساندويتش صغير من الحبوب الكاملة.

3. وجبة السحور:

• وجبة غنية بالبروتينات مثل البيض، الأجبان، البقوليات.

• شرب كميات كافية من الماء حتى الامتلاء.

• تجنب الأطعمة المالحة والمقلية.

4. السوائل:

• يجب شرب 3 لترات على الأقل من الماء يوميًا بين المغرب والفجر.

• يمكن تناول العصائر الطبيعية والحليب ولكن يجب تقليل الكافيين والمشروبات الغازية.

مؤشرات تستوجب التوقف عن الصيام فوراً

هناك مؤشرات خطيرة تستدعي توقف الأم عن الصيام فورًا واستشارة الطبيب، منها:

• انخفاض واضح في عدد مرات تبول الرضيع أو تغير لونه إلى أصفر غامق.

• نقص وزن الطفل أو عدم زيادة وزنه كما هو متوقع.

• شعور الأم بدوخة متكررة أو إغماء.

• ظهور تشققات مؤلمة في حلمة الثدي بسبب قلة الرضاعة.

• انقطاع الحليب بشكل مفاجئ أو تناقصه الملحوظ.

الحالات التي يُمنع فيها الصيام تمامًا

يمنع الصيام على الأم المرضعة في الحالات التالية:

• إذا كانت تعاني من فقر دم حاد.

• إذا كانت تُرضع توأمين أو أكثر.

• إذا كان طفلها يعاني من تأخر في النمو أو سوء تغذية.

• إذا كانت الأم تتناول أدوية لا يمكن تأجيلها أو تعويضها.

• إذا كانت الأم تعاني من نقص الوزن أو سوء التغذية.

• إذا سبق لها أن عانت من انخفاض شديد في ضغط الدم أو سكر الدم أثناء الصيام.

توصيات منظمة الصحة العالمية والمراجع العلمية

أشارت منظمة الصحة العالمية واليونيسيف إلى أن الأولوية القصوى يجب أن تُعطى لصحة الرضيع والأم، وأن القرارات المتعلقة بالصيام أثناء الرضاعة يجب أن تُتخذ بناءً على الحالة الصحية العامة، مع مراقبة دقيقة لعلامات الخطر لدى الرضيع.

دراسة نُشرت في مجلة BMC Pregnancy and Childbirth عام 2021 أكدت أن النساء اللواتي يتمتعن بحالة غذائية جيدة واستطعن تناول وجبات كافية بين الإفطار والسحور لم يتأثر إنتاج الحليب لديهن بشكل ملحوظ، في حين أن النساء ذوات المدخول الغذائي المنخفض عانين من انخفاض في إدرار الحليب.

خلاصة علمية

الصيام أثناء الرضاعة الطبيعية ليس بالأمر المستحيل، لكنه يتطلب وعيًا صحيًا كبيرًا، وتخطيطًا غذائيًا دقيقًا، ومراقبة مستمرة لحالة الرضيع. لا يوجد قرار واحد يناسب جميع الأمهات، بل يجب أن يُبنى القرار على التقييم الفردي الشامل لحالة الأم والطفل. وفي جميع الأحوال، تُعد صحة الرضيع وسلامة الأم أولوية مقدمة على الصيام، وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية وتعاليم الطب الحديث.

المراجع:

1. World Health Organization. Breastfeeding and Maternal Nutrition. WHO Publications, 2020.

2. Khoshdel, A. et al. Effect of Ramadan Fasting on Breast Milk Composition. BMC Pregnancy and Childbirth, 2021.