هل ذكرياتي حقيقية؟ سايكولوجيا الصدمات والذكريات المكبوتة
تعد الذكريات جزءاً أساسياً من هوية الإنسان ووعيه، فهي ليست مجرد تسلسل للأحداث، بل تمثل الأساس الذي نبني عليه تفسيرنا لذاتنا وعلاقاتنا بالعالم من حولنا. ولكن، هل يمكن أن تكون هذه الذكريات غير موثوقة أو حتى خاطئة؟ هذا السؤال يفتح الباب لفهم أعمق حول كيفية تشكيل ذكرياتنا، وكيف يمكن للصدمات النفسية والذكريات المكبوتة أن تؤثر على هذا التشكيل، لتؤدي في بعض الأحيان إلى خلل في القدرة على تمييز الذكريات الحقيقية من الوهمية. في هذا المقال، سنتناول تأثير الصدمات النفسية على تشكيل الذكريات، ونتعرف على كيفية تأثير الذكريات المكبوتة في سلوكنا ومشاعرنا.
1. ما هي الذاكرة؟
الذاكرة هي عملية معقدة تشمل التشفير، والتخزين، والاسترجاع للأحداث التي نعيشها. ينطوي هذا على مجموعة من العمليات العقلية التي تبدأ عندما نتعرض لمؤثرات بيئية، سواء كانت مواقف أو مشاعر أو تجارب حسية. يتم بعدها تخزين هذه المعلومات في الدماغ ليمكن استرجاعها في وقت لاحق. لكن على الرغم من كون الذاكرة عملية نشطة، إلا أن تذكر الأحداث قد لا يكون دقيقاً دائماً. في بعض الأحيان، قد نجد أنفسنا نتذكر حدثاً بطريقة معينة بينما لا يتفق الآخرون معنا حول تفاصيله.
2. الصدمات النفسية وتأثيرها على الذاكرة
تعتبر الصدمات النفسية من العوامل المؤثرة بقوة في تشكيل الذكريات. عندما يتعرض الشخص لصدمات قوية، مثل الحوادث، الاعتداءات، أو فقدان شخص عزيز، قد تطرأ تغييرات على طريقة تخزينه للذكريات. في الحالات الحادة، قد تتأثر عملية التشفير نفسها، مما يؤدي إلى أن الذاكرة قد تكون مشوهة أو مشوشة.
في كثير من الأحيان، تكون الذكريات الناتجة عن الصدمات النفسية غير مكتملة أو متقطعة. قد يشعر الشخص وكأن جزءاً من الحادث قد اختفى أو تم مسحه من ذاكرته تماماً. هذه التجربة يمكن أن تؤدي إلى ما يُعرف بالذكريات المنفصلة، حيث لا يستطيع الشخص تجميع كل الأحداث المرتبطة ببعضها البعض كما هي، مما يؤدي إلى صعوبة في بناء سرد منطقي حول التجربة.
3. الذكريات المكبوتة: الدفاعات النفسية
تعد الذكريات المكبوتة من الظواهر النفسية المعقدة التي قد تكون نتيجة لآلية دفاعية يقوم بها العقل لمواجهة الصدمات العاطفية أو النفسية. عندما يتعرض الشخص لتجربة صادمة، قد يكون غير قادر على التفاعل معها أو فهمها بسبب حجم الألم أو الاضطراب الذي تسببه له. في هذه الحالة، قد يلجأ العقل إلى كبت تلك الذكريات؛ بمعنى أن يتم دفع هذه الذكريات إلى اللاوعي، بحيث تكون غير قابلة للوصول إلى الوعي مباشرة.
قد يعتقد الشخص لفترة طويلة أنه لا يتذكر أحداثاً معينة أو أن تلك الأحداث لم تحدث أصلاً، في حين أن هذه الذكريات مكبوتة في أعماق اللاوعي. على الرغم من أن العقل يحاول حماية الشخص من الألم الناتج عن هذه الذكريات المكبوتة، إلا أن هذا الكبت يمكن أن يؤدي إلى مشاكل نفسية طويلة الأمد، مثل القلق، الاكتئاب، أو حتى اضطرابات الهوية.
4. متى تظهر الذكريات المكبوتة؟
تظهر الذكريات المكبوتة عادة في فترات لاحقة من الحياة، في لحظات معينة قد تحفز العقل على استرجاع هذه الذكريات المدفونة. يمكن أن يحدث ذلك خلال العلاج النفسي، حيث يقوم المعالج باستخدام تقنيات معينة لإعادة استرجاع الذكريات المخفية. يمكن أن تظهر أيضاً في حالات من التوتر أو الضغط النفسي، حيث يجد الشخص نفسه غير قادر على التكيف مع المواقف الحالية بسبب تأثير الذكريات المكبوتة.
إن الكشف عن هذه الذكريات قد يكون مؤلماً للغاية، وقد يواجه الشخص صعوبة في تصديق أن ما يتذكره هو الحقيقة، مما يؤدي إلى حالة من الإنكار أو حتى التشكك في مصداقية الذاكرة نفسها. في حالات معينة، قد يؤدي استرجاع هذه الذكريات إلى مشاعر من الذنب، الحزن، أو الغضب، خاصة إذا كانت هذه الذكريات تتعلق بتجارب مؤلمة أو مسيئة.
5. الذكريات الزائفة: هل يمكن أن نخلق ذكريات غير حقيقية؟
هناك ظاهرة نفسية معروفة بالذكريات الزائفة، وهي عندما يتذكر شخص ما حدثاً أو تجربة معينة لم تحدث بالضبط كما يتصورها. يمكن أن تنشأ الذكريات الزائفة بسبب التداخل مع معلومات أخرى أو نتيجة لتأثيرات خارجية مثل الإيحاءات من الآخرين أو حتى الوسائط الإعلامية. بالإضافة إلى ذلك، قد يكون الدماغ البشري عرضة لتشكيل ذكريات غير حقيقية بناءً على معتقدات سابقة أو مشاعر معينة.
أظهرت بعض الدراسات النفسية أن الأشخاص قد يتمكنون من بناء ذكريات زائفة بأنفسهم، خاصة عندما يعتقدون أن حدثاً ما قد حدث في حياتهم. في بعض الأحيان، قد يتطور الشخص ليعتقد أن تلك الذكريات الزائفة هي الحقيقة، في حين أن الواقع قد يكون مختلفاً تماماً. الأمر الأكثر تعقيداً هو أن هذه الذكريات الزائفة قد تكون مصحوبة بمشاعر قوية، مما يزيد من قدرتها على التأثير في سلوك الشخص وعواطفه.
6. تأثير الذكريات غير الدقيقة على حياة الشخص
تأثير الذكريات غير الدقيقة قد يكون عميقاً، خاصة عندما يكون الشخص غير قادر على التمييز بين الذكريات الحقيقية والزائفة. الذكريات الزائفة أو المكبوتة قد تؤثر على اتخاذ القرارات والعلاقات الشخصية. يمكن أن يتسبب التوتر الناتج عن هذه الذكريات في إعاقة النمو الشخصي، حيث يصبح الشخص عالقاً في دائرة من الأفكار والمشاعر السلبية المتعلقة بالماضي.
في بعض الحالات، قد تؤدي الذكريات المكبوتة إلى اضطرابات نفسية خطيرة، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الذي يعاني فيه الشخص من ذكريات مؤلمة تتداخل مع واقعه الحالي. بالإضافة إلى ذلك، قد يواجه الأشخاص الذين يعانون من هذه الصدمات صعوبة في تكوين علاقات صحية أو في الحفاظ على استقرار حياتهم المهنية والشخصية.
7. العلاج وسبل التعامل مع الذكريات المكبوتة
من المهم أن يدرك الشخص أن الذكريات المكبوتة أو الزائفة ليست شيئاً يجب التعامل معه بمفرده. العلاج النفسي المتخصص، مثل العلاج بالتعرض أو العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، يمكن أن يساعد الشخص في إعادة تشكيل أو فهم الذكريات بشكل صحيح. أحياناً، يحتاج الشخص إلى موجه متخصص ليفتح أمامه الباب لاسترجاع هذه الذكريات بشكل آمن ومحسوب.
من الجوانب المهمة في هذا العلاج هو فحص وتقييم مدى دقة الذكريات التي يتم استرجاعها. يمكن أن يساعد المعالج في تحديد إذا كانت الذكريات حقيقية أم أنها نتيجة لتأثيرات خارجية أو تصورات مغلوطة.
8. الخلاصة
إن فهم العلاقة بين الذكريات والوعي، وخاصة في حالات الصدمات النفسية والذكريات المكبوتة، هو أمر بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار النفسي. الذكريات ليست مجرد أحداث وقعت في الماضي، بل هي لبنات أساسية في تشكيل هويتنا الحالية. لذا، فإن العناية بحالتنا النفسية والعمل على فهم ومراجعة هذه الذكريات يمكن أن يكون له تأثير إيجابي عميق على جودة حياتنا ومستقبلنا النفسي والعاطفي.
