الصداقة في علم النفس

مفهوم الصداقة في علم النفس: أبعادها النفسية والاجتماعية وأثرها العميق على حياة الإنسان

تُعتبر الصداقة من أسمى العلاقات الإنسانية وأكثرها تأثيرًا في النفس البشرية، حيث تُشكّل جزءًا جوهريًا من النسيج الاجتماعي الذي يحيط بالفرد ويُساهم في تطوّره النفسي والاجتماعي. في علم النفس، لا تُنظر الصداقة على أنها مجرد علاقة عابرة بين شخصين، بل تُحلَّل كظاهرة متعددة الأبعاد تُسهم في تكوين الهوية، التوازن العاطفي، والدعم النفسي، كما تُعدّ مؤشرًا قويًا على جودة حياة الفرد. يتعامل علم النفس مع مفهوم الصداقة من زوايا عديدة تشمل النمو النفسي، الاحتياجات الاجتماعية، الصحة العقلية، والدوافع السلوكية، مما يجعل تحليلها أمرًا ضروريًا لفهم البنية الداخلية للفرد وعلاقاته مع الآخرين.

الصداقة كحاجة نفسية أساسية

وفقًا لنظرية “الحاجات الإنسانية” التي وضعها عالم النفس الشهير “أبراهام ماسلو”، تُعتبر الصداقة جزءًا من احتياجات الانتماء والحب، وهي مرتبة ثالثة ضمن الهرم بعد الحاجات الفسيولوجية وحاجات الأمان. فالفرد بطبيعته يسعى إلى بناء علاقات متبادلة يشعر من خلالها بالقبول، التقدير، والتواصل العاطفي. تشير الدراسات إلى أن غياب الصداقة أو ضعف العلاقات الاجتماعية يرتبط بشكل وثيق بمشاعر العزلة، القلق، الاكتئاب، وانخفاض الشعور بالرفاهية النفسية.

السمات النفسية للصداقة

في إطار علم النفس الاجتماعي، يُنظر إلى الصداقة بوصفها علاقة قائمة على:

• التكافؤ في المشاعر والتبادل العاطفي: فالصداقة تنشأ غالبًا عندما يشعر الطرفان بالارتياح والقبول المتبادل.

• الاستمرارية: فهي ليست علاقة مؤقتة بل تقوم على بناء الثقة والتفاهم عبر الزمن.

• الطوعية: حيث تُختار الصداقة بحرية دون إلزام اجتماعي أو قانوني.

• الدعم غير المشروط: وتظهر هذه السمة في أوقات الأزمات والتحديات النفسية التي يتعرض لها الفرد، حيث يلعب الصديق دور المستمع والداعم والواسي.

تُشير الدراسات النفسية إلى أن علاقات الصداقة الناجحة تُبنى على ما يُعرف بـ”الشفافية النفسية”، وهي القدرة على التعبير عن المشاعر والأفكار دون خوف من الحكم أو الرفض، مما يُعزّز الأمان النفسي ويُساعد في بناء روابط قوية ومستقرة.

تطور الصداقة عبر مراحل العمر

يُظهر علم نفس النمو أن الصداقة تمر بتحوّلات جوهرية ترتبط بتطور قدرات الفرد النفسية والمعرفية:

• في مرحلة الطفولة: تتركز الصداقة حول اللعب والمشاركة في الأنشطة، ويكون المعيار الأساسي هو التسلية والتواجد المكاني.

• في مرحلة المراهقة: تبدأ الصداقة باكتساب أبعاد أعمق مثل تبادل الأسرار، الدعم العاطفي، وتشارك القيم. وتُعدّ هذه المرحلة حاسمة في تكوين الهوية.

• في مرحلة الرشد: تُصبح الصداقة أكثر انتقائية، حيث يبحث الفرد عن أشخاص يشاركونه الاهتمامات والقيم، وتُشكّل عنصرًا مهمًا في دعم الاستقرار النفسي والاجتماعي.

• في مرحلة الشيخوخة: تميل العلاقات إلى القرب والعمق، وتُصبح الصداقة مصدرًا أساسيًا للتغلب على مشاعر العزلة والتهميش.

الصداقة والصحة النفسية

توصلت أبحاث علم النفس الإكلينيكي إلى أن وجود شبكة دعم اجتماعي قويّة، وعلى رأسها الصداقة، يُقلل من احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية متعددة، مثل الاكتئاب، القلق، واضطرابات التوتر. كما تُساعد الصداقة في تحسين الأداء المعرفي، وتعزيز المرونة النفسية، وتقوية جهاز المناعة النفسي. وتشير الدراسات إلى أن الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات صداقة مستقرة يعانون من معدلات أقل من التوتر والإجهاد، ويظهر لديهم معدل أعلى من “الرضا عن الحياة”.

الصداقة من منظور علم النفس الإيجابي

علم النفس الإيجابي، الذي أسسه “مارتن سليغمان”، يسلّط الضوء على الجوانب المشرقة في حياة الإنسان، ويعتبر الصداقة من أهم عناصر “الرفاهية النفسية” (Well-being). فالصديق الحقيقي يُعتبر مصدرًا للسعادة، والمعنى، والإنجاز. كما تساعد الصداقة في تحفيز المشاعر الإيجابية، وتُعزز مفهوم الامتنان والرضا الذاتي.

وقد أثبتت دراسات في هذا المجال أن العلاقات الاجتماعية، وعلى رأسها الصداقة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف بـ”الازدهار النفسي” (Flourishing)، وهو مفهوم يعكس توازن الفرد العاطفي، وإحساسه بالهدف، والاندماج في الحياة. كما تُساعد الصداقة في تخفيف حدة المشاعر السلبية من خلال مشاركة التجارب والآلام، مما يوفّر للفرد بيئة نفسية داعمة.

الفروق الثقافية في مفهوم الصداقة

لا يمكن فهم الصداقة بشكل كامل دون التطرق إلى تأثير البُعد الثقافي. إذ تختلف معايير اختيار الأصدقاء، وطبيعة العلاقات، وحدود الإفصاح، وفقًا للبيئة الثقافية والاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد. ففي المجتمعات الجماعية مثل الدول العربية والآسيوية، تُمنح الصداقة أبعادًا ترتبط بالوفاء، والروابط الأسرية، والواجبات الاجتماعية. بينما في المجتمعات الفردية مثل الدول الغربية، تركز الصداقة على الاستقلال، وتحقيق الذات، والتبادل العاطفي الصريح.

هذه الفروق تؤثر في كيفية تكوين الصداقات، مدتها، وحتى أسباب انتهائها. كما أن الثقافة تُحدّد أحيانًا المقبول والمرفوض في العلاقات، مما يُؤثر على قدرة الفرد على الإفصاح عن مشاعره أو الاستفادة من الدعم النفسي.

الجدول: مقارنة بين سمات الصداقة في المراحل العمرية المختلفة

أثر الصداقة على السلوك واتخاذ القرار

من منظور علم النفس السلوكي، تلعب الصداقة دورًا مهمًا في تشكيل سلوك الفرد واتجاهاته. فالصديق المقرب يؤثر في طريقة التفكير، وتقدير الذات، واتخاذ القرارات. وعندما تكون العلاقة قائمة على الاحترام والتفاهم، فإنها تُسهم في تعزيز السلوكيات الإيجابية، وتجنب المخاطر، وتنمية الحس الأخلاقي. في المقابل، فإن الصداقة مع أشخاص يحملون توجهات سلبية قد تؤدي إلى الانحرافات السلوكية، خصوصًا في مرحلة المراهقة، ما يُعرف بـ”ضغط الأقران” (Peer Pressure).

علم النفس الاجتماعي يؤكد أن الإنسان كائن اجتماعي يتأثر ويتأثر بمن حوله، وتُعدّ الصداقة من أبرز العوامل التي تُسهم في هذا التأثير.

خصائص الصديق المثالي في علم النفس

لا يوجد نموذج واحد للصديق المثالي، لكن الدراسات النفسية تشير إلى مجموعة من الصفات التي تُعزز جودة العلاقة وتُسهم في بقائها، من أهمها:

• الصدق والشفافية: وهي أساس بناء الثقة.

• الاستماع النشط: أي القدرة على الإصغاء دون مقاطعة أو إصدار أحكام.

• الاحترام المتبادل: الذي يُحافظ على حدود العلاقة.

• الدعم العاطفي: خصوصًا في فترات التحدي والأزمات.

• الاهتمام الحقيقي: الذي يُعبّر عن وجود علاقة صادقة وغير مصلحية.

الصداقة والعلاج النفسي

في ميدان العلاج النفسي، يُنظر إلى الصداقة كعنصر مكمل للعملية العلاجية. فالمعالجون يشجعون المرضى على بناء علاقات اجتماعية صحية تُساعدهم على التعافي. وفي بعض الحالات، تُستخدم الصداقة نفسها كأداة في العلاج، مثل في “العلاج الجماعي” (Group Therapy)، حيث يُشجّع المشاركون على تكوين علاقات داعمة داخل المجموعة.

كما يُمكن للصداقة أن تُساعد الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة في الحفاظ على التوازن، وتقديم العون اليومي، وتحقيق نوع من “الاندماج الاجتماعي” الذي يحمي من الانتكاسة.

المراجع:

• Baumeister, R. F., & Leary, M. R. (1995). The need to belong: Desire for interpersonal attachments as a fundamental human motivation. Psychological Bulletin.

• Seligman, M. E. P. (2011). Flourish: A visionary new understanding of happiness and well-being. Free Press.