خطبة جمعة عن الصبر
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون،
إن الصبر من أعظم الفضائل التي دعا الإسلام إلى التمسك بها، وهو من الأخلاق التي ترفع من شأن المؤمن وتزيده قرباً من الله تعالى. قد نواجه في حياتنا اليومية العديد من الابتلاءات والاختبارات التي تتطلب منا أن نتحلى بالصبر على ما أصابنا من ضرر أو ألم. فمن المؤمنين من يصبر، ومنهم من يجزع، لكن المؤمن الذي يتحلى بالصبر هو من يفوز بحسن الجزاء من الله تعالى.
تعريف الصبر
الصبر في اللغة هو حبس النفس عن الجزع واحتساب الأجر. أما في الشريعة الإسلامية، فيعتبر الصبر على أنه تحمل الشدائد والمحن والابتلاءات بصبرٍ جميلٍ دون تذمر أو شكوى، ويشمل الصبر على الطاعات، على الشدائد، وعلى المحرمات.
الصبر على الطاعة
أول أنواع الصبر الذي يجب على المسلم أن يتصف به هو الصبر على طاعة الله. فطاعة الله ليست أمراً سهلاً دائماً، بل قد يواجه المسلم أوقاتاً يشعر فيها بالثقل والملل، خاصة في العبادات اليومية مثل الصلاة والصيام والزكاة، ولكن الصبر على أداء هذه الطاعات يجعل المسلم أقرب إلى الله، وهو طريق الفوز في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى في كتابه الكريم: “وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ…” (الحج: 78)، مما يدل على أن الجهاد في طاعة الله يتطلب صبراً ومثابرة.
الصبر على الشدائد
النوع الآخر من الصبر هو الصبر على المصائب والشدائد التي قد يتعرض لها الإنسان. المسلم في هذه الدنيا لا بد أن يواجه الكثير من البلاء، سواء في المال أو الصحة أو الأهل. ولكن الله تعالى أمرنا بالصبر على هذه البلاء فقال: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (البقرة: 153)، فالله عز وجل يضمن للمؤمن أن يكون معه في محنته إذا صبر واحتسب.
في هذا السياق، نجد أن الصبر على البلاء لا يعني الاستسلام أو الركون إلى القنوط، بل هو الاستمرار في الحياة بثبات، والاعتراف بأن ما أصابنا هو اختبار من الله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الكامل بأن ما عند الله خير وأبقى. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له” (رواه مسلم).
الصبر على المحرمات
النوع الثالث من الصبر هو الصبر عن المعاصي والمحرمات، حيث يتعين على المسلم أن يصبر عن ارتكاب ما يغضب الله عز وجل. فإن الصبر على ترك المعاصي والابتعاد عن المحرمات أمر ضروري لحفظ النفس، وهو عمل من أعمال الجهاد. في هذا السياق، قال الله تعالى: “وَأَمَرْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَلا تَتَّبِعُوا سُبُلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الأعراف: 3).
أنواع الصبر وأهميتها
إن أنواع الصبر التي تحدثنا عنها ليست فقط مفتاحاً للوصول إلى رضا الله، بل هي أيضاً مفتاح للنمو الروحي والنفسي. فالصبر على الطاعة يعزز الإيمان ويقوي العلاقة مع الله، والصبر على الشدائد يجعل المؤمن قوياً في مواجهة صعوبات الحياة، والصبر على المحرمات يحفظ للإنسان دينه وقيمه.
مقامات الصبر
هناك عدة مقامات للصبر يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، وهي:
-
صبر العزيمة: وهو الصبر الذي يتطلب قوة الإرادة والثبات على المبادئ.
-
صبر الرضا: وهو الصبر الذي يتضمن الرضا بقضاء الله وقدره، فلا يشكو المسلم من مصيبته بل يرضى بحكم الله.
-
صبر الثبات: وهو الصبر الذي يتجلى في المثابرة على العمل الصالح والعبادة، حتى في الأوقات التي قد يشعر فيها الشخص بالملل أو الضيق.
الثمرة المرجوة من الصبر
من خلال الصبر، يحقق المؤمن العديد من الثمرات المهمة في حياته الدنيا وآخرته. فمن أبرز الثمرات التي يجنيها المسلم من الصبر:
-
تحقيق الرضا الإلهي: فالإنسان الذي يصبر على البلاء يتقرب إلى الله وتزداد محبته له.
-
النجاح في الاختبارات: الله تعالى يختبر المؤمن ليعطيه فرصة لزيادة إيمانه ورفع درجاته، وكلما كان الصبر أكبر كان الأجر أعظم.
-
النصر على الأعداء: كما أن الصبر يعد وسيلة للنصر على الأعداء والمحن، ويقول الله تعالى في كتابه الكريم: “إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا” (آل عمران: 120).
نماذج من الصبر في حياة الأنبياء
لقد كان الأنبياء والمرسلون أفضل من تجسد فيهم الصبر على مر العصور، فقد مروا بأصعب المحن، ومع ذلك كانوا صابرين محتسبين.
-
صبر نبي الله أيوب: كان أيوب عليه السلام من أعظم الأمثلة على الصبر في العسر واليسر. فقد ابتلاه الله بكل ما يمكن أن يبتلى به الإنسان من صحة ومال وأهل، ومع ذلك صبر واحتسب، حتى قال الله تعالى عنه: “إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا” (ص: 44).
-
صبر نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بالكثير من الابتلاءات، من إهانة وطرد وفتن، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم صابراً راضياً بما قضاه الله، واحتسب الأجر عند الله.
خاتمة
إن الصبر من أعظم ما يزين حياة المسلم ويقويه في مواجهة تحديات الدنيا. وقد أمرنا الله تعالى بالصبر في كتابه الكريم وذكره في العديد من الآيات، كما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على فضل الصبر في الكثير من الأحاديث. فلنحرص جميعاً على أن نتحلى بالصبر في مختلف جوانب حياتنا، سواء في الطاعة أو الشدائد أو في الابتعاد عن المحرمات، حتى نفوز برضا الله، وننال الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من الصابرين، واجعلنا من أهل الجنة بغير حساب، آمين.
