الشيخ محمد بن عبد الوهاب: حياته، دعوته، وتأثيره في العالم الإسلامي

الشيخ محمد بن عبد الوهاب يُعد من أبرز الشخصيات الدينية التي كان لها أثر بالغ في التاريخ الإسلامي الحديث. وُلد في القرن الثاني عشر الهجري، وسط بيئة قبلية يغلب عليها الطابع التقليدي والجمود في الممارسات الدينية، ليُحدث بعدها تحوّلاً فكرياً عميقاً في الجزيرة العربية من خلال دعوته إلى التوحيد الخالص وتنقية العقيدة الإسلامية من الشوائب التي علقت بها عبر العصور. أثارت دعوته جدلاً واسعاً بين المؤيدين والمعارضين، لكنها بلا شك أسست لمرحلة جديدة في الفكر الديني والسياسي، ولا تزال آثارها قائمة حتى يومنا هذا.

النشأة والبدايات العلمية

وُلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عام 1115 هـ (1703م) في بلدة العيينة بنجد، وسط الجزيرة العربية، ونشأ في أسرة علمية بارزة. كان والده الشيخ عبد الوهاب بن سليمان أحد العلماء المعروفين، مما وفر لمحمد بن عبد الوهاب بيئة علمية مناسبة لتكوين فكره منذ وقت مبكر. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم انطلق في رحلاته العلمية إلى مختلف مناطق العالم الإسلامي، منها مكة، والمدينة، والبصرة، والأحساء، وغيرها، طلباً للعلم الشرعي، وللاحتكاك بالعلماء البارزين في زمانه.

كان للبيئة الفكرية التي عاش فيها أثرٌ كبيرٌ على تكوينه، فقد لاحظ انتشار البدع والخرافات والممارسات غير الشرعية بين المسلمين، ووجد في نفسه حافزاً كبيراً لتغيير هذا الواقع. تأثر بكتابات ابن تيمية وابن القيم، وخصوصاً ما يتعلق بمفاهيم التوحيد، وإنكار الشرك، وإصلاح العقيدة.

الدعوة إلى التوحيد

تُعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تجديدية بالدرجة الأولى، فقد هدفت إلى إحياء العقيدة الإسلامية الصافية كما جاءت في الكتاب والسنة، بدون تحريف أو إضافات بشرية. ركّزت دعوته بشكل محوري على توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة، ورفض كل ما يُخِلُّ بهذا الأصل من التوسل بالأولياء، أو التبرك بالأضرحة، أو دعاء غير الله.

انطلقت دعوته في العيينة، حيث بدأ بنشر أفكاره في المساجد، وتعليم الناس حقيقة التوحيد، وتحذيرهم من مظاهر الشرك. واجه مقاومة من بعض القوى المحلية، ما أدى إلى نفيه من بلدته، لينتقل بعدها إلى الدرعية ويلتقي بالأمير محمد بن سعود.

التحالف مع الأمير محمد بن سعود

يُعد اللقاء بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود عاملاً محورياً في نجاح الدعوة واستمرارها. فقد وجد الشيخ في الأمير حليفاً سياسياً يوفر له الحماية والنفوذ اللازم لنشر دعوته، بينما وجد الأمير في الشيخ مشروعاً دينياً يضفي الشرعية على طموحه السياسي في توحيد الجزيرة العربية. أدى هذا التحالف إلى نشوء الدولة السعودية الأولى عام 1157 هـ (1744م)، والتي تأسست على مبدأ الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية.

تمت دعوة القبائل والمدن المحيطة للانضمام إلى هذه الدولة الجديدة على أساس ديني عقائدي، وليس قبلياً فقط، مما عزز من وحدة الكيان السياسي الوليد. استخدمت الدولة وسائل متعددة لنشر الدعوة، منها التعليم، والخطابة، وحتى الجهاد العسكري ضد من عُدُّوا من أهل الشرك.

المواقف الفكرية والمنهج العلمي

تميزت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالتركيز على مجموعة من المفاهيم المركزية التي أعادت ترتيب سلم الأولويات الدينية لدى المسلمين، منها:

1. إنكار الشرك والبدع: اعتبر الشيخ أن كثيراً من الممارسات الدينية السائدة آنذاك تُعد نوعاً من الشرك بالله، كتقديس القبور، والطواف بها، ودعاء الموتى.

2. العودة إلى الكتاب والسنة: دعا إلى نبذ التقليد الأعمى للمذاهب الفقهية، والرجوع إلى النصوص الأصلية لفهم الدين.

3. إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: رأى في هذه الفريضة وسيلة إصلاحية لا يمكن للمجتمع أن يستقيم بدونها.

4. التكفير بشروط: لم يكن تكفيرياً بالمعنى الفوضوي، بل اشترط توفّر الشروط وانتفاء الموانع، كما بيّن ذلك في رسائله العلمية، وكان حذراً في إطلاق الأحكام.

5. الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: رغم ما يُشاع عن العنف، فقد كانت أولويته هي التعليم والدعوة السلمية، ولم تُستخدم القوة إلا بعد استنفاد وسائل النصح والدعوة.

أشهر مؤلفاته

ترك الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجموعة من المؤلفات التي أصبحت مراجع مركزية في الفكر السلفي، ومن أبرزها:

• كتاب التوحيد: يُعد المرجع الأساسي لفهم عقيدته، ويشرح فيه مفهوم التوحيد وأنواعه، وما يُناقضه من الشركيات.

• كشف الشبهات: يُدحض فيه أبرز الاعتراضات التي وُجهت إلى دعوته، ويُبين الأسس الشرعية التي يستند إليها.

• الأصول الثلاثة: يوضح فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان، ويُعلّم فيه المبادئ الأساسية للعقيدة الإسلامية.

• مسائل الجاهلية: يُعدد فيه أبرز مظاهر الجاهلية التي عادت إلى المجتمعات الإسلامية، ويقارنها بما جاء به الإسلام.

الانتقادات والمعارضات

رغم النجاح الذي حققته دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في توحيد منطقة نجد، وانتشارها خارجها لاحقاً، إلا أنها واجهت انتقادات شديدة من بعض العلماء والتيارات الإسلامية في مناطق أخرى، وتركزت الاعتراضات في النقاط التالية:

• ادعاء التكفير: اتُّهم الشيخ ومناصروه بإطلاق أحكام التكفير بسهولة على مخالفيهم، رغم أن الكتابات الأصلية للشيخ تثبت غير ذلك.

• هدم القبور والمزارات: عُدَّت هذه الأعمال هجوماً على التراث الديني للشعوب الإسلامية، وخروجاً عن المألوف في التعامل مع المسائل الفقهية المختلف فيها.

• التعاون مع القوى السياسية: رأى البعض أن دعوته استُخدمت لتبرير التوسع السياسي والعسكري للدولة السعودية، وهو ما أثار عداء القوى العثمانية آنذاك، التي كانت تعتبر نفسها الحامية للدين الإسلامي.

مع ذلك، فإن هذه الانتقادات لا تنفي أن دعوته جاءت في وقت كانت فيه الأمة في حاجة ماسة إلى تجديد العقيدة، وتنقية الدين من البدع والشوائب.

تأثيره على الفكر الإسلامي الحديث

امتد تأثير الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج حدود الجزيرة العربية، ليشمل أجزاء واسعة من العالم الإسلامي. وقد تبنت دعوته عدد من الحركات الإسلامية السلفية في الهند، وأفريقيا، ومصر، والشام، وغيرها. كما أثرت أفكاره في تأسيس مناهج التعليم الديني في كثير من الدول.

من أبرز مظاهر هذا التأثير:

وفاته وإرثه

توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1206 هـ (1792م) بعد حياة حافلة بالدعوة والتعليم والإصلاح، لكنه ترك وراءه أثراً لا يُمحى. بقيت أفكاره حية في كتب طلابه، وفي التطبيق العملي الذي تبنته الدولة السعودية الأولى ثم الثانية، ولاحقاً الدولة السعودية الحديثة.

لا تزال سيرته تُدرّس وتُناقش في الجامعات، وتُثير الجدل بين مؤيد ومعارض. لكنه، على أي حال، يُعد من الشخصيات التي يصعب تجاوزها عند الحديث عن حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي خلال القرون الأخيرة.

المراجع

1. محمد خليل هراس، شرح كتاب التوحيد، دار الهجرة، الرياض.

2. د. عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، السعودية.