الشياطين في رمضان: الحقيقة

عنوان المقال: الشياطين في رمضان

مقدمة

يتردد كثيرًا بين المسلمين مقولة مشهورة مفادها أن “الشياطين تُصفّد في رمضان”، وهي عبارة تنبع من حديث نبوي شريف وتُستدل بها للإشارة إلى نقاء هذا الشهر الفضيل وسموه الروحي. غير أن هذا المفهوم قد أثار تساؤلات في الأذهان: كيف تستمر المعاصي في رمضان إن كانت الشياطين قد صُفّدت؟ وهل يعني تصفيد الشياطين اختفاءها تمامًا أم أن الأمر أعمق من ذلك؟ هذا المقال يعالج هذه المسألة من زوايا عقدية ونفسية وسلوكية متعددة، مع الاستناد إلى أقوال العلماء والمصادر الموثوقة في الشريعة الإسلامية، بغرض تقديم تصور شامل وفهم دقيق لهذه المسألة.

أولاً: دلالة الحديث النبوي الشريف

الحديث الذي تستند إليه هذه المسألة ورد في “الصحيحين”، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

“إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين”.

هذا الحديث يحمل أبعادًا متعددة في تفسيره، وقد اختلف العلماء في فهمهم له، فمنهم من أخذه على ظاهره، ومنهم من رأى أن فيه مجازًا أو تخصيصًا.

ثانياً: معنى تصفيد الشياطين

1. التصفيد لغةً وشرعًا

التصفيد في اللغة يعني التقييد بالسلاسل والأغلال، وهو ما يشير إلى شلّ حركة الشيء ومنعه من الحرية والتصرف. وفي السياق الشرعي، فالمقصود هو أن الشياطين تُقيّد عن إغواء المؤمنين بنفس القوة والفاعلية المعتادة في غير رمضان.

2. تصفيد بعض الشياطين دون غيرهم

ذهب جمهور العلماء، ومنهم الإمام ابن خزيمة والنووي وابن حجر العسقلاني، إلى أن المقصود بالتصفيد هو “بعض الشياطين”، وتحديدًا “المردة” منهم، أي أشدهم كفراً وتمرداً وإغواءً. وقد استدلوا بذلك على استمرار وجود الوساوس والمعاصي في رمضان، مما يدل على أن التصفيد لا يشمل جميع الشياطين.

3. تصفيد معنوي وليس ماديًا مطلقًا

بعض أهل العلم فسّروا الحديث على أنه من باب المجاز، أي أن تصفيد الشياطين هو إشارة إلى ضعف تأثيرهم بسبب طاعة المؤمنين وكثرة العبادات في هذا الشهر. فالصيام والقيام والقرآن تضعف تأثير الشيطان في النفس وتكبله بقيود الإيمان.

ثالثاً: الشيطان والنفس: علاقة متشابكة

1. دور النفس الأمّارة بالسوء

من الضروري التفريق بين وسوسة الشيطان وبين ميول النفس الأمّارة بالسوء. النفس البشرية قد تدفع صاحبها للمعصية دون وسوسة من الشيطان، خصوصاً إن كانت لم تتعود على الطاعة أو إن كانت تابعة لشهوات الدنيا.

2. الاعتياد على المعصية

كثير من الناس يتصرفون خلال رمضان بنفس الأنماط السلوكية السيئة التي اعتادوها طوال العام، مثل الغيبة أو مشاهدة المحرمات، بسبب تراكم السلوك السيء وتطبّعه في الشخصية، لا بسبب وسوسة الشيطان مباشرة.

3. الشيطان كباعث أولي وليس حصرياً

الشيطان قد يوسوس أول مرة، لكنه لا يُجبر الإنسان على الفعل، وإنما يعرض عليه طريق الغواية فقط. فإذا ما تبع الإنسان هذه الوساوس وتعلّق بها، أصبح يمارس المعاصي تلقائياً حتى من دون حضور وسوسة جديدة.

رابعاً: مراتب الشياطين وأنواعهم

1. إبليس رأس الشياطين

إبليس هو أبو الشياطين، وأول من عصى الله تعالى بالكبرياء، وله ذرية مخصصة للتضليل والوسوسة للناس.

2. المردة

وهم أقوى الشياطين تأثيرًا، وأكثرهم تمردًا، وهؤلاء هم الذين يقال عنهم إنهم يُصفّدون في رمضان، كما قال كثير من أهل التفسير.

3. خُنّس وجنّ وشياطين أضعف

هؤلاء يستمرون في الوسوسة بحسب قوتهم، لكن في رمضان يكون تأثيرهم محدودًا وضعيفًا بسبب الأجواء الإيمانية وروحانية الشهر.

خامساً: أثر تصفيد الشياطين على سلوك الإنسان في رمضان

1. البيئة الرمضانية الإيمانية

خلال رمضان، تُكثر الأمة الإسلامية من الطاعات، وتزداد المساجد امتلاءً، ويُقرأ القرآن في كل بيت، وهذا كله يخلق “بيئة إيمانية” لا مكان فيها للشيطان. وبذلك، حتى من بقي من الشياطين يجد نفسه محاصراً بتلك الأجواء.

2. ضعف فاعلية الشيطان في النفوس

من آثار تصفيد الشياطين، أن النفس تصبح أكثر قدرة على مقاومة المعاصي، مما يجعل من رمضان فرصة عظيمة للتوبة والرجوع إلى الله.

3. زيادة الوازع الديني

بسبب تصفيد الشياطين، فإن كثيراً من الناس يشعرون بهدوء داخلي وروحانية عالية، تعينهم على الصلاة والذكر وقراءة القرآن، وهو ما يتجلى في زيادة الالتزام خلال هذا الشهر.

سادساً: التصفيد لا ينفي وجود المعصية

رغم تصفيد الشياطين، إلا أن المعصية قد تقع، والسبب في ذلك يعود إلى:

• النفس الأمّارة بالسوء كما سبق ذكره.

• تأثير الشياطين الضعفاء الذين لم يُصفّدوا.

• العادات السلوكية السابقة للإنسان.

• المجتمع والبيئة المحيطة التي قد تدفعه إلى الفساد.

لذلك، فإن وجود بعض المعاصي لا يتنافى مع تصفيد الشياطين، بل يؤكد أن الإنسان مسؤول عن نفسه، وأن عليه مجاهدة نفسه وأهوائه كما يجاهد وساوس الشيطان.

سابعاً: تفسير العلماء وموقفهم من الحديث

1. الإمام النووي

قال إن التصفيد لا يعني منع وسوسة الشياطين مطلقاً، بل هو تقليل لقدرتهم وتأثيرهم في نفوس الناس.

2. الإمام ابن حجر العسقلاني

ذكر في “فتح الباري” أن تصفيد الشياطين في رمضان حقيقة، لكنه لا يمنع وقوع المعصية؛ لأن التصفيد يخص المردة، أو أن التصفيد يكون جزئيًا أو رمزيًا.

3. الإمام القرطبي

قال في تفسيره أن التصفيد قد يكون سبباً في تقليل الشر، لكنه لا ينهيه تماماً، مما يعني أن الحديث لا يُفهم على ظاهره فقط، بل يحتاج إلى تأويل وفهم متكامل.

ثامناً: نظرة سلوكية ونفسية

1. رمضان فرصة لتغيير البرمجة النفسية

إذا كان رمضان يصفّد الشياطين، فإنها فرصة ممتازة لتحرير النفس من العادات السلبية وتدريبها على الاستقامة. فغياب التأثير الشيطاني القوي يتيح للإنسان إعادة هيكلة عاداته.

2. الصيام كوسيلة لتقوية الضمير

قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ… لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. والتقوى هي أهم وسيلة للدفاع ضد وسوسة الشيطان، وبالتالي، فإن شهر رمضان هو دورة تدريبية على ضبط النفس وترويضها.

3. علاقة الطاعة بالتحصين من الشيطان

العبادات الرمضانية الكثيفة (القيام، الصيام، تلاوة القرآن، الذكر…) تؤدي إلى زيادة المناعة الروحية لدى الإنسان، مما يضعف تأثير الشيطان في نفسه.

تاسعاً: مقاربة شاملة بين النص والعقل والواقع

بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن القول “تُصفّد الشياطين في رمضان” هو قول صحيح وثابت بنص الحديث الشريف، لكنه لا يعني بالضرورة انعدام وجود الشر أو توقف وسوسة الشيطان تمامًا، بل يُقصد به:

• تقليل قدرة الشيطان على الإغواء.

• تصفيد المردة منهم دون الضعفاء.

• منح فرصة للناس للعودة إلى الفطرة والطاعة.

• تهيئة الجو الإيماني للتوبة.

ولا يتنافى ذلك مع الواقع الذي نراه من استمرار بعض صور المعصية، لأن الإنسان لا يتكوّن من الشيطان فقط، بل من دوافع داخلية وسياقات خارجية تؤثر عليه، وقد يكون هو من يتحمّل مسؤولية سلوكه، لا الشيطان.

عاشراً: خلاصة تحليلية

في ضوء الحديث النبوي وتفسيرات العلماء والسياق النفسي والسلوكي العام، فإن القول بتصفيد الشياطين في رمضان يحمل دلالة رمزية وروحية عميقة، تهدف إلى تعزيز الشعور بالطمأنينة وإتاحة الفرصة للتوبة والتزكية. لكن ذلك لا يعني توقف الشرور بالكامل، بل هو عامل مساعد للإنسان المؤمن كي ينتصر على نفسه ويحقق التقوى المنشودة.

المراجع

1. صحيح البخاري، كتاب الصوم، باب فضل شهر رمضان.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري.