الشغف ليس مجرد شعور عابر أو حالة مزاجية مؤقتة، بل هو طاقة داخلية كامنة قادرة على تحويل الرتابة إلى حيوية، والمهام اليومية العادية إلى تجارب ممتعة مليئة بالإبداع والتحفيز. هو الدافع الذي يجعل الإنسان يستمر في السعي رغم التعب، ويجعل الإنجاز يبدو كأنه لعبٌ جميل وليس مجرد واجب. تكمن أهمية الشغف في كونه لا يقتصر على مجال معين كالعمل أو الدراسة، بل يمكن استحضاره في أي لحظة، وفي كل جزء من أجزاء الحياة، مما يمنح الإنسان قدرة غير عادية على التفاعل الإيجابي مع محيطه.
ماهية الشغف وأبعاده النفسية
الشغف هو حالة من الانخراط العاطفي والعقلي الكامل في نشاط معين، تنبع من تطابق بين قيم الإنسان واهتماماته ومعتقداته وبين ما يقوم به. من منظور علم النفس، يعتبر الشغف أحد أقوى المحفزات الداخلية، وهو يرتبط بمناطق في الدماغ مسؤولة عن المتعة والمكافأة، مما يفسر الشعور بالرضا والسعادة عند ممارسة نشاط يُشعرنا بالشغف.
يميز الباحثون بين نوعين من الشغف:
-
الشغف المتناغم: الذي ينبع من اختيار حر ويتماشى مع باقي جوانب الحياة.
-
الشغف القهري: الذي يتحول إلى هوس يؤثر سلبًا على توازن الفرد.
لذا، تعلم كيفية استحضار الشغف بشكل متناغم يعزز الصحة النفسية والإنتاجية ويجعل الحياة أكثر توازناً وإشباعاً.
كيف يتولد الشغف؟
يتولد الشغف عندما يكون هناك ارتباط عاطفي حقيقي بين الشخص ونشاط معين يشعره بالمعنى، ويُظهر له جانباً من ذاته. هذا النشاط قد يكون هواية، مشروعاً شخصياً، مهنة، أو حتى لحظة تواصل إنساني مع الآخر. لكن كثيراً ما يُعتقد أن الشغف يأتي فجأة أو يجب انتظاره، بينما الحقيقة أن الشغف يمكن صناعته وتغذيته بوعي.
تتكون هذه القدرة من عدة عناصر:
-
الوعي الذاتي: أن يعرف الشخص ما يحبه ويهتم به.
-
الانفتاح على التجربة: تجربة أشياء جديدة بفضول.
-
الربط القيمي: ربط المهام اليومية بالقيم الشخصية.
-
المعنى: إيجاد هدف يتجاوز الذات.
-
التدريب على الحضور الذهني: التركيز الكامل في اللحظة والابتعاد عن التشتت.
استراتيجيات عملية لاستحضار الشغف في أي لحظة
من خلال استراتيجيات عملية مستندة إلى أبحاث علم النفس الإيجابي والعلوم العصبية، يمكن تدريب النفس على استدعاء الشغف متى ما دعت الحاجة لذلك، سواء في العمل، العلاقات، أو حتى في اللحظات الصامتة من التأمل الشخصي.
1. إعادة صياغة المهام اليومية
من السهل أن تبدو بعض المهام مملة أو تافهة إذا نُظر إليها كواجب مفروض. لكن عند ربطها بهدف أكبر أو قيمة شخصية، يتحول إدراكنا نحوها. على سبيل المثال، بدلاً من التفكير في تنظيف المنزل كمهمة شاقة، يمكن رؤيتها كفعل للعناية الذاتية والراحة المستقبلية. هذه العملية تسمى في علم النفس “إعادة التقييم المعرفي”.
2. التنفس الواعي والانتباه للحظة
يُعد التنفس الواعي تقنية أساسية لتهدئة الجهاز العصبي وتفعيل حالة التركيز والوعي اللحظي. عند دمج هذه التقنية مع إدراك المشاعر الحالية، يمكن تحرير مساحة ذهنية لإعادة الاتصال بالشغف. فقط ثلاث دقائق من التنفس بعمق وتركيز كافية لتبديل المزاج الداخلي وتغيير النظرة للأشياء.
3. استدعاء الذكريات المشحونة بالشغف
عند تراجع الحماس أو الشعور بالفتور، يمكن استحضار لحظة في الماضي كان فيها الإنسان مندمجاً بالكامل في نشاط يحبه. هذه العملية تُعرف بـ”استحضار الحالة الذهنية”، وهي تقنية تُستخدم لتحفيز الدماغ على إفراز الدوبامين، ما يعيد الشعور بالحيوية.
4. استعمال الحواس كمحفز للشغف
أظهرت دراسات في علم الأعصاب أن الحواس الخمس تلعب دورًا حاسمًا في تفعيل المشاعر. يمكن أن يثير عطر معين أو موسيقى مفضلة أو ملمس مألوف حالة من الشغف، إذ ترتبط الحواس بالذكريات والمشاعر بشكل مباشر. من المفيد الاحتفاظ بقائمة من المحفزات الحسية التي تستثير الحماس والشغف وتفعيلها عند الحاجة.
5. التركيز على التقدم وليس الكمال
غالبًا ما يُقتل الشغف عندما يصبح الشخص مهووسًا بالكمال. المقارنة بالآخرين، أو السعي لأن تكون النتيجة مثالية منذ البداية، يمكن أن تعطل الطاقة الداخلية. بينما التركيز على التقدم البسيط والمتدرج يسمح للشغف أن يتنفس ويتوسع.
6. ممارسة الامتنان كمنشط داخلي
الامتنان يُعيد توجيه الانتباه من النقص إلى الوفرة، ومن الإحباط إلى التقدير. تخصيص بضع دقائق يومياً لتسجيل ثلاثة أشياء ممتنة لها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، يعزز الشعور بالرضا الداخلي، ما يهيئ الذهن لاستقبال الشغف بشكل تلقائي.
الشغف كقوة تنظيمية داخلية
الشغف لا يمنح فقط طاقة للعمل، بل يُعد بمثابة نظام توجيه داخلي، يساعد الإنسان على اتخاذ قرارات تتماشى مع ذاته الحقيقية. هو الذي يمنح الاستدامة للعادات الجيدة، ويخلق دافعاً للاستمرار في الظروف الصعبة. كما يُعزز من الالتزام في العلاقات الشخصية والعملية لأنه يستند إلى انخراط عاطفي حقيقي وليس مجرد واجب.
كيف يتحول الشغف إلى أسلوب حياة؟
عندما يتحول الشغف إلى نمط حياة، لا تعود هناك حاجة لانتظاره، بل يصبح هو الوضع الطبيعي للعقل. هذا يتطلب استراتيجيات طويلة الأمد تتجاوز اللحظة:
– بناء بيئة مشجعة
البيئة المحيطة تؤثر على مستويات الشغف بشكل كبير. وجود أشخاص ملهمين، أماكن محفزة، وروتين يومي يتضمن وقتًا للإبداع، يساعد على تثبيت الشغف في النظام النفسي.
– التعلّم المستمر
كلما تعلم الإنسان أكثر في مجال معين، زاد حبه له. التعلّم لا يغذي فقط العقل، بل يفتح آفاقًا جديدة تُثير الشغف مجددًا. القراءة، حضور ورش العمل، أو حتى مشاهدة وثائقيات تلهم، كلها وسائل فعالة.
– ممارسة الإبداع حتى في المهام الصغيرة
الإبداع لا يعني الرسم أو الموسيقى فقط، بل هو أسلوب في التفكير. يمكن تحويل كتابة بريد إلكتروني إلى عمل إبداعي إذا صيغ بلغة أصيلة. يمكن تحويل إعداد الطعام إلى لحظة فنية إذا أُنجز بشغف.
الشغف في مواجهة الضغوط النفسية
أظهرت دراسات متعددة أن الشغف يُعد عامل حماية ضد الاكتئاب والقلق. الأشخاص الذين يعيشون بشغف لديهم قدرة أعلى على التكيف، لأنهم لا يرون الحياة سلسلة من الواجبات بل سلسلة من الفرص. هذا لا يعني غياب المعاناة، بل يعني وجود دافع داخلي يحول الألم إلى معنى.
الفرق بين الحماس المؤقت والشغف العميق
من المهم التمييز بين الشعور بالحماس المؤقت الناتج عن حدث محفز، وبين الشغف العميق الذي يُبنى بالتدريج ويستمر رغم الصعوبات. الحماس سريع الزوال، أما الشغف الحقيقي فثابت نسبياً، ويتغذى على الصبر والاتساق وليس فقط على الإثارة اللحظية.
| المعيار | الحماس المؤقت | الشغف العميق |
|---|---|---|
| مدة الاستمرارية | قصير الأمد | طويل الأمد |
| المصدر | خارجي غالبًا | داخلي |
| التفاعل مع الصعوبات | يتلاشى مع التحديات | يزداد قوة |
| النتيجة | تقلبات في الأداء | استقرار وازدهار |
تعزيز الشغف عبر الذكاء العاطفي
الأشخاص ذوو الذكاء العاطفي العالي يستطيعون تنظيم مشاعرهم وتحفيز أنفسهم بكفاءة. هذا يمكنهم من استحضار الشغف في اللحظات الحرجة، لأنهم قادرون على فصل المشاعر السلبية عن الأداء، وتحويلها إلى طاقة بنّاءة.
الشغف والهوية الذاتية
الإنسان لا يبحث فقط عن ما يفعله، بل عن من يكون. الشغف يُعيد تشكيل الهوية الذاتية لأنه يُظهر ما يحب الشخص، وما يستمتع به، وما يطمح إليه. لذلك، كلما زاد وضوح الشغف، زادت وضوح الهوية.
المراجع
-
Vallerand, R. J. (2015). The Psychology of Passion: A Dualistic Model. Oxford University Press.
-
Csikszentmihalyi, M. (1990). Flow: The Psychology of Optimal Experience. Harper & Row.
-
Fredrickson, B. L. (2009). Positivity. Crown Publishing Group.
-
Duckworth, A. (2016). Grit: The Power of Passion and Perseverance. Scribner.
إن بناء علاقة متوازنة مع الشغف، وجعله حاضراً في كل لحظة، هو مهارة حياتية يمكن صقلها وتطويرها بوعي واستمرارية. هو ليس امتيازاً لفئة معينة، بل إمكانية متاحة لكل من يرغب في أن يعيش بعمق وصدق وتحقيق.
