الشريف المرتضى: علم وأدب

الشريف المرتضى: حياته، فكره، وآثاره في التراث الإسلامي

يُعَدُّ الشريف المرتضى واحداً من أعظم أعلام الفكر الإسلامي في القرون الوسطى، وشخصية محورية في التشيع الإمامي، لما تميز به من مكانة علمية وفقهية وأدبية. امتاز بموسوعيته وتعمقه في مختلف العلوم، حتى صار مرجعاً للعلماء والباحثين في مختلف الحقول المعرفية، لا سيما علم الكلام والفقه وأصوله، والأدب والبلاغة، وله إسهامات واضحة في تطور المذهب الإمامي الاثني عشري. وقد كان زعيماً علمياً ودينياً بارزاً في عصره، جمع بين عمق النظر، وثراء الفكر، وسعة الثقافة، وحسن البيان.

نسبه ونشأته

ولد الشريف المرتضى في بغداد سنة 355هـ (965م)، ونشأ في أسرة عريقة تنتسب إلى آل البيت النبوي، فهو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام موسى الكاظم، سابع أئمة الشيعة. وكان يكنى بأبي القاسم، ويُلقب بـ”علم الهدى”، وهو لقب أطلقه عليه الشيخ المفيد لما لاحظ فيه من ذكاء وفطنة وورع. وشقيقه هو الشريف الرضي، جامع ديوان الإمام علي بن أبي طالب في “نهج البلاغة”، وكلاهما تخرّجا في مدرسة بغداد العلمية المتقدمة في ذلك العصر.

نشأ في بيئة علمية خصبة، حيث احتضنه والداه منذ صغره وربوه تربية علمية وأخلاقية عالية، فأُتيحت له فرصة نادرة لتلقي العلم من كبار شيوخ العلم في العراق آنذاك، وبرز منذ صغره في علوم اللغة العربية والفقه والكلام.

تحصيله العلمي

درس الشريف المرتضى على يد الشيخ المفيد، أحد أبرز علماء الشيعة في ذلك العصر، ولازمه سنوات طويلة، حتى غدا أبرز تلامذته وخليفته في زعامة الطائفة بعد وفاته. كما درس عند أبي حيان التوحيدي وأبي الفتح عثمان بن جني في علوم اللغة والبلاغة، الأمر الذي منح كتاباته طابعاً أدبياً وبلاغياً خاصاً، وعمقاً في التعبير والأسلوب.

كان المرتضى واسع الاطلاع، إذ لم يقتصر على الفقه والكلام فقط، بل ألمّ بالفلسفة والمنطق والتفسير وأصول الفقه واللغة والنحو والبيان، وكان يناظر كبار علماء الفرق الأخرى، مثل المعتزلة والأشاعرة، ويجادلهم بلغة علمية قوية محكمة، مما أكسبه مكانة بارزة حتى لدى من يخالفونه المذهب.

زعامته الدينية والعلمية

بعد وفاة أستاذه الشيخ المفيد سنة 413هـ، تولى الشريف المرتضى زعامة الطائفة الإمامية، فكان مرجعاً علمياً وفقهياً للمجتمع الشيعي، وتصدر للتدريس والإفتاء، فاجتمع حوله عدد كبير من التلاميذ، الذين صار بعضهم من أعلام الفكر في ما بعد، مثل الشيخ الطوسي، مؤسس الحوزة العلمية في النجف.

كانت مدرسته في بغداد من أهم مراكز العلم في ذلك العصر، وجمعت بين الدراسة العقلية والنقلية، وكان للمرتضى أسلوب خاص في تعليم تلامذته، يجمع بين التحليل العقلي الدقيق والاعتماد على النصوص الدينية، وحرص على تنمية الروح النقدية لدى طلبته.

فكره الكلامي والعقائدي

يُعَدّ المرتضى أحد أبرز أعلام علم الكلام في التراث الشيعي، وقد كان متأثراً بالمعتزلة في بعض الأصول، لكنه لم يتبنَّ مذهبهم بالكامل، بل أعاد صياغة الفكر الكلامي الإمامي بأسلوب عقلاني متين، يدافع فيه عن العقائد الشيعية على أسس عقلية مستندة إلى القرآن الكريم والسنة.

ومن أبرز إسهاماته في علم الكلام دفاعه العقلاني عن عدل الله وتوحيده، وتفسيره لمفهوم الإمامة باعتباره أصلاً من أصول الدين، إذ يرى أن الإمام يجب أن يكون معصوماً منصوصاً عليه من قبل الله، لا يمكن أن يُترك أمره للناس. كما تناول قضايا النبوة والمعاد والصفات الإلهية بعمق فلسفي وكلامي كبير.

أشهر ما تميز به فكره هو التوسط بين النقل والعقل، فقد كان من دعاة الاعتماد على العقل في تأويل النصوص وفهم العقيدة، لكن دون إلغاء دور النصوص، مما جعله في طليعة المفكرين الإسلاميين الذين مزجوا بين العقل والنقل بتوازن رفيع.

فقهه وأصوله

في مجال الفقه، أبدع الشريف المرتضى في صياغة منهج أصولي خاص، يتميز بالتركيز على الدلالات اللفظية والمعاني العقلية للنصوص، وكان من أوائل من وضعوا أسساً منطقية لاستنباط الأحكام الشرعية. وقد ألف في ذلك كتابه “الذريعة إلى أصول الشريعة”، الذي يُعد من أمهات كتب الأصول عند الإمامية.

وفي فتاواه، اتسم بالاجتهاد والاستقلالية، فلم يكن مقلداً، بل غالباً ما كان يقدم اجتهادات فقهية جديدة، استناداً إلى استقراء النصوص وتحليلها عقلياً. كما ناقش مسائل الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصوم، الحدود، والمعاملات بأسلوب منهجي دقيق.

إسهاماته في اللغة والأدب

إلى جانب علمه الكلامي والفقهي، كان المرتضى أديباً بليغاً وشاعراً فصيحاً، وله ديوان شعري كبير، تنوعت موضوعاته بين الفخر والهجاء والرثاء والغزل والتصوف، وجمع بين البلاغة والدقة في التعبير، مما جعله يحظى بتقدير النقاد والأدباء في زمانه.

كما كتب في البلاغة والنحو، وله آراء لغوية ونحوية مهمة، خاصة في التعامل مع النص القرآني، وكان من المتبحرين في علوم البيان والمعاني والبديع، مما أضفى على كتاباته الفقهية والكلامية طابعاً أدبياً رفيعاً، لا سيما في مؤلفاته الكبرى.

أبرز مؤلفاته

ترك الشريف المرتضى تراثاً ضخماً من المؤلفات، بلغ عددها أكثر من ثمانين كتاباً، لكن لم يصلنا منها إلا عدد محدود، ومن أبرزها:

وقد اعتُمدت كتبه في المدارس الشيعية لقرون، وكانت ولا تزال مرجعاً علمياً في الحوزات العلمية، وخاصة كتابه “الشافي”، الذي يُعَدُّ من أقوى المؤلفات الدفاعية عن الإمامة الشيعية.

منزلته بين العلماء

كان الشريف المرتضى محل احترام وتقدير بين معاصريه ومَن جاء بعده، فقد أثنى عليه الشيخ الطوسي واعتبره أستاذه الأعظم، كما امتدحه الذهبي في سير أعلام النبلاء، رغم اختلاف المذهب، واصفاً إياه بأنه من أعيان العلماء، واسع المعرفة، جليل القدر.

كما نال احترام السلطان البويهي في بغداد، واحتل مكانة مرموقة في الوسط العلمي والسياسي، وقد ساعد في نشر المذهب الشيعي وتثبيت أركانه علمياً وفكرياً، عبر مؤلفاته وتلامذته.

وفاته وإرثه

توفي الشريف المرتضى سنة 436هـ (1044م) في بغداد، ودفن في داره في الكرخ، وقيل إن جسده نُقل بعد ذلك إلى كربلاء، حيث دفن قرب مرقد الإمام الحسين عليه السلام. وقد ترك وراءه تراثاً علمياً ضخماً، وتلاميذ نجباء وكتباً خالدة، ومكانة لا تزال مؤثرة في تاريخ الفكر الإسلامي والشيعي.

يشهد تراثه الفكري على مشروع علمي ضخم حاول من خلاله أن يؤسس لعقل إسلامي يقوم على البرهان العقلي دون أن يتخلى عن التراث النصي. وقد مهد الطريق لمن جاء بعده، وأثرى التراث الإسلامي بمجموعة من المبادئ الفكرية واللغوية والفقهية، التي لا تزال تدرس وتناقش إلى يومنا هذا.

المصادر

1. الطوسي، محمد بن الحسن. الفهرست.

2. الزركلي، خير الدين. الأعلام، دار العلم للملايين.