السن الطبيعي لمشي الطفل: مراحل النمو الحركي وأهم العوامل المؤثرة

يُعدّ المشي من أهم المحطات الحركية في حياة الطفل، ويمثل نقلة نوعية في تطور قدراته البدنية والإدراكية والاجتماعية. يتساءل الكثير من الآباء والأمهات عن السن الطبيعي الذي يبدأ فيه الطفل بالمشي، وهو سؤال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفهم الدقيق لمراحل تطور الجهاز الحركي العصبي عند الرضع والأطفال. وتكمن أهمية هذا الموضوع في كونه مؤشراً على النمو السليم، كما يساعد على الكشف المبكر عن أية اضطرابات أو تأخيرات محتملة في تطور الطفل. لا يوجد سن ثابت يصلح لكل الأطفال، فالفروق الفردية تلعب دوراً محورياً، إلا أن هناك إطاراً زمنياً عاماً يشير إلى النطاق الطبيعي الذي يبدأ فيه الطفل بالمشي.

النمو الحركي عند الطفل: تسلسل متكامل

تطور الطفل الحركي يخضع لتسلسل منتظم يبدأ منذ الولادة ويستمر خلال السنوات الأولى من الحياة. ويمر النمو الحركي بمراحل متعددة تشمل القدرة على رفع الرأس، الجلوس، الزحف، الحبو، الوقوف، وأخيراً المشي. لا تحدث هذه المراحل بشكل منفصل، بل تتكامل مع بعضها البعض حيث تُبنى المهارة التالية على المهارة السابقة، مما يعكس نضوج الجهاز العصبي والعضلي تدريجياً.

فيما يلي تسلسل نمو المهارات الحركية الكبرى بشكل تقريبي:

السن الطبيعي لمشي الطفل

يبدأ معظم الأطفال المشي بشكل مستقل بين سن 12 إلى 15 شهراً، ويُعد هذا هو الإطار الزمني الأكثر شيوعاً. ومع ذلك، فإن بعض الأطفال قد يمشون في عمر 9 أشهر، وآخرون قد لا يمشون حتى يبلغوا 18 شهراً، وكل ذلك لا يزال ضمن النطاق الطبيعي للتطور الحركي. الأطفال الذين يمشون بعد عمر 18 شهراً يُعدون في نطاق “التأخر الحركي البسيط”، لكنه لا يشير بالضرورة إلى وجود مشكلة صحية إلا إذا ترافق مع أعراض أخرى مثل ضعف التوازن، عدم القدرة على الوقوف، أو فقدان مهارات سابقة.

العوامل المؤثرة في توقيت المشي

تتعدد العوامل التي تؤثر على توقيت مشي الطفل، ويُمكن تصنيفها إلى عوامل بيولوجية، بيئية، اجتماعية، وجينية. من أبرز هذه العوامل:

1. العوامل الوراثية

للوراثة دور كبير في تحديد توقيت المشي. إذا كان أحد الأبوين قد بدأ المشي في سن مبكرة أو متأخرة، فمن المحتمل أن يتبع الطفل النمط نفسه. الاختلافات الفردية في الجينات قد تؤثر على نمو العضلات، التوازن، والتنسيق الحركي.

2. الوزن عند الولادة

الأطفال الذين يولدون بوزن منخفض أو خُدَّج (أي قبل اكتمال 37 أسبوعاً من الحمل) قد يواجهون تأخراً طفيفاً في بعض المهارات الحركية، بما في ذلك المشي. يرجع ذلك إلى عدم اكتمال نمو الجهاز العصبي والعضلي عند الولادة.

3. البيئة الحركية

يؤثر المحيط الذي يعيش فيه الطفل على تحفيز النمو الحركي. الأطفال الذين تُتاح لهم الفرصة للحركة بحرية، مثل الزحف على الأرض أو المحاولة على الوقوف، يكتسبون المهارات الحركية بسرعة أكبر. في المقابل، فإن الاعتماد المفرط على الكراسي، العربات، أو المشايات (الووكر) قد يؤخر من اكتساب المهارات الحركية بشكل طبيعي.

4. التغذية

التغذية السليمة ضرورية لنمو العظام والعضلات، كما تلعب دوراً أساسياً في دعم التطور العصبي. نقص العناصر الغذائية الأساسية مثل الحديد، الكالسيوم، فيتامين D، وأحماض أوميغا 3 الدهنية يمكن أن يؤثر سلباً على تطور المهارات الحركية.

5. الصحة العامة والنمو العصبي

وجود اضطرابات صحية مثل نقص التوتر العضلي (hypotonia)، التشنجات العضلية (spasticity)، أو مشكلات في الجهاز العصبي المركزي قد يؤدي إلى تأخر ملحوظ في مهارة المشي. كما أن الأطفال المصابين بمتلازمات وراثية مثل متلازمة داون قد يتأخرون عن المعدل الطبيعي.

6. الجنس

تشير بعض الدراسات إلى أن الإناث قد يبدأن المشي قبل الذكور بشكل طفيف، إلا أن هذا الفارق لا يُعد ذا دلالة كبيرة إحصائياً، وغالباً ما تكون الفروق طفيفة ولا تؤثر على التقييم العام للتطور.

مراحل تطور المشي لدى الطفل

المشي لا يبدأ فجأة، بل يمر بمراحل متتالية ومتراكمة تدل على النضج التدريجي للجهاز الحركي. هذه المراحل تشمل:

الوقوف مع دعم

يبدأ الطفل بمحاولة الوقوف مستنداً إلى أثاث أو أي جسم ثابت في عمر 9-10 أشهر تقريباً. هذه المرحلة تعكس بداية تطور العضلات الأساسية المسؤولة عن الثبات.

المشي بمساعدة

عند عمر 10-12 شهراً، يبدأ الطفل بالمشي بمساعدة الأهل أو من خلال الدفع بجسم أمامه مثل كرسي صغير. هذه المرحلة تساهم في تطوير التوازن وتنسيق الأطراف.

المشي المستقل غير المستقر

في المرحلة العمرية من 12 إلى 14 شهراً، يبدأ الطفل بالمشي دون مساعدة، ولكن بخطوات غير متزنة، وقد يسقط كثيراً. هذا طبيعي تماماً ويُعد جزءاً من اكتساب التوازن.

المشي المتزن

بحلول عمر 15 إلى 18 شهراً، يصبح مشي الطفل أكثر اتزاناً واستقراراً، وتقل نسبة السقوط. يبدأ الطفل أيضاً باستخدام يديه بحرية أثناء المشي، ويظهر التنسيق الحركي بشكل أوضح.

الفرق بين المشي الطبيعي والمشي المرضي

من المهم التفريق بين التأخر الطبيعي في المشي والتأخر الناتج عن وجود مشكلة طبية. فيما يلي بعض المؤشرات التي تستوجب المراجعة الطبية:

• عدم القدرة على الوقوف حتى عمر 15 شهراً

• عدم المشي بحلول عمر 18 شهراً

• تصلب أو ارتخاء مفرط في العضلات

• استخدام جهة واحدة من الجسم فقط

• تأخر في مهارات أخرى مثل التواصل أو اللعب

أهمية التوازن والتنسيق في المشي

عملية المشي تعتمد بشكل كبير على مراكز التوازن في الدماغ، وعلى قدرة العضلات على تنفيذ الأوامر العصبية بشكل منسق. يُعد التوازن عنصراً مركزياً، ويتم تدريبه تلقائياً من خلال التجربة والسقوط المتكرر، ما يعزز مرونة الطفل وتعلمه من الخطأ.

هل للمشايات (الووكر) دور في تسريع المشي؟

تنتشر فكرة أن استخدام المشايات قد يُسهم في تسريع عملية المشي، إلا أن الدراسات العلمية تشير إلى عكس ذلك. فالمشايات قد تُسبب تأخراً في المشي، لأنها تُبقي الطفل في وضعية غير طبيعية، وتمنعه من تطوير عضلات التوازن والساق بشكل طبيعي. كما أنها قد تعرّض الطفل لخطر السقوط أو الحوادث المنزلية.

التحفيز الإيجابي لمساعدة الطفل على المشي

يمكن للأهل أن يلعبوا دوراً إيجابياً في تحفيز طفلهم على المشي عبر وسائل متعددة، منها:

• توفير مساحة آمنة للحركة والاستكشاف

• السماح للطفل بالزحف والحبو بحرية

• تقوية عضلات الساق عبر الألعاب الحركية

• تشجيع الطفل عند المحاولة بالمشي دون القلق من السقوط

• تجنب المقارنات مع أطفال آخرين

هل يعتبر تأخر المشي مؤشراً على تأخر في الذكاء؟

المشي مهارة حركية مرتبطة بالجهاز العصبي والعضلي أكثر من ارتباطها بالقدرات العقلية المجردة. معظم الأطفال الذين يتأخرون في المشي لا يعانون من تأخر عقلي أو معرفي. بل إن الكثير من الأطفال الذين يمشون في عمر متأخر يظهرون مستوى طبيعياً من الذكاء لاحقاً. لذلك فإن تأخر المشي لا يُعد مؤشراً موثوقاً على القدرات العقلية، ويجب تقييم الطفل بشكل شامل قبل الوصول إلى أي استنتاج.

حالات مرضية قد تؤدي إلى تأخر المشي

هناك حالات طبية محددة قد تتسبب في تأخر المشي، وتشمل:

• الشلل الدماغي: يسبب ضعفاً في العضلات والتوازن نتيجة تلف دماغي أثناء الولادة أو بعدها.

• الحثل العضلي: مجموعة من الأمراض الوراثية التي تؤثر على قوة العضلات.

• خلل في الورك: مثل خلع الورك الولادي والذي يُعيق حركة الطرف السفلي.

• نقص فيتامين D: يسبب لين العظام، ويؤثر على القدرة على الوقوف والمشي.

• متلازمة داون: تترافق مع تأخر حركي عام.

التدخل المبكر وأهميته

في حال وجود تأخر ملحوظ في المشي يتجاوز سن 18 شهراً، ينبغي استشارة طبيب الأطفال المختص أو طبيب الأعصاب أو أخصائي العلاج الطبيعي. الكشف المبكر يتيح تشخيص السبب بدقة ويزيد من فعالية التدخل العلاجي سواء عبر الجلسات الحركية أو المتابعة الدورية.

مقارنة عالمية لتوقيت المشي عند الأطفال

تظهر بعض الدراسات العالمية أن توقيت المشي يختلف بشكل بسيط بين الدول بسبب العوامل البيئية والثقافية. في بعض الثقافات يتم تشجيع الأطفال على الحركة في سن مبكرة، بينما تقيّد ثقافات أخرى حركة الطفل بدافع الحماية. على سبيل المثال:

خلاصة علمية

المشي يمثل معلماً تنموياً أساسياً يعكس النضوج الحركي والعصبي للطفل، ويتراوح سن المشي الطبيعي بين 12 إلى 18 شهراً. لا ينبغي القلق إذا تأخر الطفل عن المشي ضمن هذا الإطار الزمني، طالما لا توجد مؤشرات أخرى تدعو للقلق. المتابعة الدورية مع طبيب الأطفال وتوفير بيئة محفّزة وآمنة تشكل الأساس السليم لدعم نمو الطفل الحركي.

المصادر

1. World Health Organization (WHO). “Motor Development Milestones.” Geneva, WHO, 2023.

2. American Academy of Pediatrics. “Delayed Walking: When to Worry.” Pediatrics, 2022.