السلطانة كوسم: سيدة الدولة العثمانية

السلطانة كوسم: سيرة واحدة من أعظم نساء الدولة العثمانية

السلطانة كوسم، أو كما تعرف أحيانًا بـ«كوسم سلطان» أو «مريم سلطان»، تعتبر واحدة من أبرز الشخصيات النسائية في تاريخ الدولة العثمانية، والتي لعبت دورًا محوريًا في السياسة والحكم خلال القرن السابع عشر، في فترة تعرف بعصر «النساء» أو «الولاية السلطانية للنساء». لقد كانت السلطانة كوسم شخصية فريدة، جمعت بين القوة السياسية والتأثير الكبير في قرارات الدولة العثمانية، كما تركت بصمة عميقة على تاريخ الإمبراطورية من خلال سيطرتها على شؤون الحكم لفترات طويلة.

أصل السلطانة كوسم وبداياتها

وُلدت السلطانة كوسم حوالي عام 1589 في جزيرة كريت الواقعة تحت الحكم الفينيسي، وكانت تُدعى في الأصل «أناستازيا» أو «ماريا»، نسبة إلى جذورها اليونانية المسيحية الأرثوذكسية. كانت كوسم من إحدى نساء البلاط العثماني اللواتي أُخِذن كجواري في سن صغيرة إلى القصر، حيث تم تعليمها وتحويلها إلى الإسلام، ومن ثم جرى تقديمها إلى السلطان أحمد الأول.

يُقال إن جمالها ونبل أخلاقها جعلها تبرز سريعًا في بلاط السلطان، حتى أصبحت زوجته المفضلة، وولدت له عدة أبناء، منهم السلطان مصطفى الأول والسلطان عثمان الثاني والسلطان إبراهيم، الذي حكم لاحقًا، والسلطان محمد الرابع الذي خلفه. بذلك، استطاعت السلطانة كوسم أن تبني لنفسها مكانة قوية داخل الأسرة الحاكمة.

دورها السياسي وتأثيرها في الدولة العثمانية

لم تكن السلطانة كوسم مجرد زوجة للسلطان، بل أصبحت شخصية سياسية نافذة أثرت بشكل مباشر في شؤون الحكم، وخاصة خلال الفترات التي شهدت ضعفًا في السلطة السلطانية أو صراعات داخلية بين الأمراء.

بعد وفاة السلطان أحمد الأول عام 1617، توالت صراعات الخلافة بين أبنائه، حيث تقلد السلطان مصطفى الأول الحكم مرتين، ولكنه كان ضعيفًا نفسيًا وجسديًا، الأمر الذي أدى إلى تدخّل كوسم في شؤون الحكم بشكل مباشر. في فترة حكم السلطان إبراهيم (والد محمد الرابع)، الذي اشتهر بتقلباته النفسية وأفعاله العنيفة، لعبت كوسم دورًا في محاولة حماية أبنائها والحفاظ على توازن السلطة.

وعندما اعتلى ابنها محمد الرابع العرش عام 1648، وكانت في ذلك الوقت في أوج نفوذها، عملت السلطانة كوسم كوالدة للسلطان (الوالدة السلطانة)، وهو المنصب الذي كان يمنحها صلاحيات واسعة في إدارة شؤون الدولة، خاصة في بداية حكم محمد الرابع الذي كان قاصرًا.

الولاية السلطانية للنساء وأهم إنجازات كوسم

فترة حكم السلطانة كوسم تمثل ذروة «الولاية السلطانية للنساء»، وهي مرحلة تاريخية اتسمت بتدخل نساء العائلة العثمانية في شؤون الحكم، سواء من خلال دور الوصاية على السلطان القاصر أو عبر نفوذهن المباشر على القرارات السياسية.

تميزت السلطانة كوسم بذكاء سياسي وحكمة في إدارة الدولة، حيث تعاونت مع كبار الوزراء ووجهاء الدولة، واستطاعت أن تدير الحكم بطريقة تحافظ على استقرار الإمبراطورية رغم الظروف الصعبة التي شهدتها الدولة آنذاك، مثل الحروب الخارجية والتحديات الداخلية.

كان لها دور فعال في تعيين الوزراء الكبار، وخاصة الصدر الأعظم، الذي كان يحكم فعليًا باسم السلطان، كما شاركت في توجيه السياسة الخارجية والداخلية. ويعود إليها الفضل في الحفاظ على وحدة الدولة وتحقيق بعض الانتصارات العسكرية والتقليل من التوترات الداخلية التي كانت تهدد استقرار الإمبراطورية.

الحياة الاجتماعية والثقافية في عهد السلطانة كوسم

عُرفت السلطانة كوسم أيضًا بدعمها للمشاريع الخيرية والتعليمية، حيث أطلقت العديد من المشاريع الاجتماعية مثل بناء المساجد والوقفات الخيرية، التي ساهمت في تحسين الحياة الاجتماعية للمواطنين العثمانيين.

كما كان لقصرها في إسطنبول دور بارز كمركز للنفوذ، حيث كان يُنظر إليها كرمز للقوة النسائية والسياسية في الدولة العثمانية، وكانت تستقبل كبار الشخصيات، وتدير ملفات الدولة من خلال شبكتها من المتعاونين والمستشارين.

سقوط السلطانة كوسم وظلال نهايتها

رغم نفوذها الكبير، لم تكن حياة السلطانة كوسم خالية من المخاطر، فقد شهدت البلاط العثماني العديد من الصراعات السياسية والخيانات. انتهت حياة السلطانة كوسم بشكل مأساوي عام 1651 عندما قتلت في قصر طوب قابي بأمر من السلطان محمد الرابع نفسه، في ظل صراعات داخلية على السلطة بين الوالدة السلطانة وشخصيات أخرى داخل البلاط العثماني.

يُذكر أن موتها كان نتيجة للخلافات السياسية، حيث رأى البعض أنها أصبحت تهدد توازن القوى في الدولة بسبب نفوذها الكبير. كانت وفاتها بمثابة نهاية لعصر كان فيه للنساء دور محوري في إدارة الدولة، وعلامة على التحولات السياسية التي شهدتها الإمبراطورية في منتصف القرن السابع عشر.

الإرث والتاريخ

تبقى السلطانة كوسم شخصية محورية في تاريخ الدولة العثمانية، ويُنظر إليها كواحدة من أقوى النساء اللواتي حكمن الإمبراطورية بشكل غير مباشر. لم تكن مجرد زوجة سلطان، بل كانت شخصية ذكية وعاقلة استطاعت أن تلعب دورًا سياسيًا هامًا في فترة مضطربة شهدت صراعات على السلطة.

لقد جسدت السلطانة كوسم نموذجًا للمرأة التي استطاعت في مجتمع ذكوري متشدد أن تحقق تأثيرًا حقيقيًا في أعلى مستويات الحكم. كما أنها تركت إرثًا من القوة والحكمة في إدارة الدولة، وهو ما يجعلها محل دراسة وتحليل لدى المؤرخين والباحثين في التاريخ العثماني.

في الختام، السلطانة كوسم ليست مجرد شخصية تاريخية عابرة، بل رمز للقوة والذكاء السياسي النسائي في الدولة العثمانية، وشاهد حي على الحقبة التي شهدت تنامي نفوذ النساء في بلاط السلاطين، وهو ما أطلق عليه مؤرخو العثمانية «عصر النساء» الذي أضاف بعدًا جديدًا لفهم تاريخ الإمبراطورية العثمانية وحكمها.

المصادر:

• Shaw, Stanford J., and Ezel Kural Shaw. History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Volume 1: Empire of the Gazis. Cambridge University Press, 1976.

• Peirce, Leslie P. The Imperial Harem: Women and Sovereignty in the Ottoman Empire. Oxford University Press, 1993.