السلطان سليم الأول: فاتح المشرق ومؤسس الهيمنة العثمانية في الشرق الإسلامي

يُعدّ السلطان سليم الأول (1470 – 1520م)، والمعروف بلقب “ياووز” أي “القاطع” أو “الصارم”، أحد أبرز سلاطين الدولة العثمانية وأكثرهم تأثيرًا في رسم ملامح المرحلة التوسعية الكبرى للإمبراطورية العثمانية في المشرق الإسلامي. فقد شهد عهده تحولًا استراتيجيًا ضخمًا في توجه الدولة العثمانية من التركيز على الفتوحات في أوروبا والبلقان إلى التمدد في قلب العالم الإسلامي، حيث المراكز التاريخية للخلافة والحضارة الإسلامية. حكم السلطان سليم الأول الإمبراطورية العثمانية منذ عام 1512م وحتى وفاته عام 1520م، وهي فترة قصيرة نسبيًا من حيث الزمن، لكنها كانت غنية ومليئة بالأحداث التاريخية المفصلية التي غيّرت وجه الشرق الإسلامي إلى الأبد.

النشأة والتكوين المبكر

ولد سليم الأول عام 1470م في مدينة أماسيا، وهي واحدة من الولايات الأناضولية التي كانت تُستخدم تقليديًا كمعقل لتأهيل أبناء السلاطين وتدريبهم على فنون الحكم والسياسة والإدارة. كان والده هو السلطان بايزيد الثاني، وهو حاكم متزن ميّال إلى السلم أكثر من الحرب، أما والدته فهي غالبًا ما تُنسب إلى أصول إيرانية أو شركسية، وقد تلقى تعليمه في بلاط أماسيا وتدرب على المهارات العسكرية والإدارية إلى جانب دراسة الفقه والتاريخ واللغات والآداب الإسلامية.

كان سليم يتمتع بشخصية قوية وطباع حازمة وميول عسكرية بارزة منذ شبابه، وقد أظهر كفاءة في إدارة ولاية طرابزون عندما كان واليًا عليها قبل أن يصبح سلطانًا، حيث نجح في صد العديد من الهجمات الصفوية والغارات الجورجية على الحدود الشرقية للدولة، مما أبرز مؤهلاته العسكرية والسياسية في آنٍ معًا.

الصراع على العرش العثماني

في أواخر عهد السلطان بايزيد الثاني، دخلت الدولة العثمانية في حالة من التوتر الداخلي نتيجة الصراع بين أولاده على العرش، وكان أبرز المتنافسين على الخلافة هم الأمير أحمد، الابن المفضل للسلطان بايزيد، والأمير سليم. غير أن سليم استطاع حشد تأييد بعض قادة الجيش، لا سيما فرق الإنكشارية الذين رأوا فيه شخصية قيادية حازمة قادرة على توجيه الدولة نحو القوة العسكرية والتوسع.

وفي عام 1512م، وبعد صراع حاد، تمكّن سليم من إجبار والده السلطان بايزيد الثاني على التنازل عن العرش، ليبدأ حكمه رسميًا. وقد سارع إلى تصفية خصومه من أبناء إخوته ومن بقي من المطالبين بالعرش، وهي خطوة رغم قسوتها إلا أنها كانت تهدف إلى توحيد السلطة ومنع أي تمرد داخلي يُضعف الإمبراطورية.

السياسة الخارجية والتوجه نحو المشرق

كان سليم الأول مختلفًا عن أسلافه في رؤيته الاستراتيجية، حيث لم يُركّز جهوده على التوسع في أوروبا فحسب، بل توجّه بشكل حاسم نحو الشرق الإسلامي، وكان مدفوعًا بأسباب عدة، أهمها التهديد المتزايد من الدولة الصفوية في إيران، والنفوذ المتراجع للمماليك في مصر والشام والحجاز.

المواجهة مع الدولة الصفوية: معركة جالديران

من أبرز معارك سليم الأول، معركة جالديران التي وقعت عام 1514م، ضد الشاه إسماعيل الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية في إيران. كانت هذه المعركة حاسمة في تحديد مستقبل المشرق الإسلامي، وقد دارت في سهل جالديران قرب مدينة تبريز، عاصمة الصفويين.

تمكّن سليم الأول من هزيمة الصفويين هزيمة قاسية، نتيجة تفوقه في استعمال المدافع والفرسان، وهي ميزة لم تكن متاحة للصفويين الذين اعتمدوا على المشاة والسلاح الأبيض. وبعد النصر، دخل تبريز لكنه لم يمكث فيها طويلًا خشية من بعد خطوط الإمداد وتهديدات البرد والشتاء القاسي في تلك المنطقة.

أدت هذه المعركة إلى تقليص نفوذ الصفويين غرب نهر الفرات، وأمنت الحدود الشرقية للدولة العثمانية لفترة طويلة، كما وجهت رسالة قوية لبقية القوى في العالم الإسلامي حول صعود الدولة العثمانية كقوة سنية مركزية في وجه النفوذ الصفوي الشيعي.

ضم الشام ومصر: سقوط دولة المماليك

بعد تثبيت الحدود الشرقية، وجّه السلطان سليم اهتمامه إلى الجنوب، حيث كانت دولة المماليك تحكم مصر والشام والحجاز، لكنها دخلت مرحلة من الضعف السياسي والاقتصادي والعسكري. وكانت هذه الدولة تمثل من الناحية الرمزية مقر الخليفة العباسي في القاهرة وحامية الحرمين الشريفين، ما جعلها ذات وزن ديني ومعنوي كبير في العالم الإسلامي.

في عام 1516م، اصطدمت الجيوش العثمانية بالمماليك في معركة مرج دابق قرب حلب، حيث استطاع العثمانيون تحقيق نصر حاسم وقُتل السلطان قانصوه الغوري، سلطان المماليك. ثم تبع ذلك معركة الريدانية في عام 1517م قرب القاهرة، حيث قُتل السلطان المملوكي الجديد طومان باي، وبذلك سقطت مصر في يد العثمانيين، وانتهت دولة المماليك رسميًا، وأصبحت مصر ولاية عثمانية.

هذا الانتصار لم يكن مجرد توسع جغرافي، بل كان بمثابة إعلان غير مباشر لتحول مركزية العالم الإسلامي من القاهرة إلى إسطنبول، حيث ضم السلطان سليم الأول الخلافة الإسلامية إليه بعد تسلّمه للرموز الدينية من الخليفة العباسي المتوكل الثالث، ما منح السلطنة العثمانية شرعية دينية كبرى.

إدارة الأراضي الجديدة

تميّزت إدارة السلطان سليم الأول للأراضي الجديدة بالحزم والتنظيم. فقد أبقى على العديد من الهياكل الإدارية المحلية في الشام ومصر مع إضافة مشرفين عثمانيين عليها لضمان الولاء. كما أرسل قوات لحماية الحرمين الشريفين، وأمر بتحديث البنية التحتية في مكة والمدينة، مع إدخال تحسينات على طرق الحج وتأمينها.

واهتم بإعادة تنظيم ولاية مصر بطريقة تضمن تحكمًا مركزيًا عثمانيًا، حيث شكّل نظامًا إداريًا يضمن وجود الوالي العثماني إلى جانب نفوذ رمزي لبقايا المماليك كطبقة إدارية دنيا، ما سهل من عملية الاستيعاب الإداري للمجتمع المصري داخل بنية الدولة العثمانية.

الجانب العسكري والعقائدي

عرف السلطان سليم الأول بولائه القوي للإسلام السني، واعتبر نفسه حامل لواء الدفاع عن هذا المذهب في وجه المد الصفوي الشيعي. وقد رافقت انتصاراته العسكرية حملة دينية واسعة لدعم الفقه السني وتكريس المؤسسات الدينية التي تخدم هذا التوجه، ومنها تعزيز دور العلماء والفقهاء في إسطنبول والقاهرة.

واشتهر باستخدامه المكثف للمدفعية الحديثة، وكانت جيوشه مجهزة تسليحًا وتدريبًا يفوق أغلب خصومه، وقد اعتمد على طبقة الإنكشارية، وهي القوة النخبوية في الجيش العثماني، في أغلب معاركه الكبرى، فضلًا عن تطوير جهاز الاستخبارات والمراسلات العسكرية.

الصفات الشخصية والقيادة

اشتهر السلطان سليم الأول بشخصيته الصارمة، وكان يُعرف بالحزم الشديد في تعامله مع المسؤولين والولاة والجنود، وكان لا يتسامح مع أي تهاون أو خيانة، وهو ما جعله يتمتع بهيبة كبيرة في الداخل والخارج. ورغم قصر فترة حكمه، إلا أنه كان يُنجز قرارات كبرى بسرعة وحسم، ما عكس شخصية قيادية متمرسة وصاحبة رؤية استراتيجية.

وكان يميل إلى العزلة والتأمل أحيانًا، كما يُروى عنه أنه كان واسع الثقافة وملمًا بالأدب والفقه والعلوم الإسلامية، وأحب القراءة والتاريخ. أما في الحياة الشخصية، فكان متدينًا ورعًا، حريصًا على الصلاة، ويُقال إنه كان يفضل ارتداء الملابس البسيطة بعيدًا عن الترف الزائد.

الوفاة والإرث التاريخي

توفي السلطان سليم الأول في عام 1520م بعد عودته من إحدى الحملات العسكرية، ويُرجح أن الوفاة كانت بسبب مرض عضال (غالبًا السرطان)، وقد دُفن في جامع ياووز سليم في إسطنبول. خَلَفه ابنه السلطان سليمان القانوني، الذي تابع سياسة والده التوسعية وجعل من الدولة العثمانية قوة عظمى عالمية.

لقد ترك السلطان سليم الأول إرثًا سياسيًا ودينيًا هائلًا. فمن خلال فتوحات قصيرة الزمن لكنها ضخمة الأثر، ضمّ إلى الدولة العثمانية مركز الثقل الإسلامي في الحجاز ومصر والشام، ورفع من مكانتها الدينية كخلافة إسلامية عظمى، ووجّه الدولة نحو الشرق لتصبح حامية الإسلام السني ووريثة الخلافة العباسية.

جدول: أبرز إنجازات السلطان سليم الأول

المراجع

• Halil İnalcık, The Ottoman Empire: The Classical Age 1300–1600, Phoenix Press, 2000.

• Caroline Finkel, Osman’s Dream: The History of the Ottoman Empire, Basic Books, 2005.