السكان الأصليون لأمريكا: التاريخ والثقافة

السكان الأصليون لأمريكا: التاريخ، الثقافة، المعاناة، والصمود

شهدت القارة الأمريكية قبل وصول الأوروبيين وجود حضارات بشرية متقدمة، متجذرة في عمق التاريخ الجغرافي والثقافي للمنطقة. يُطلق على الشعوب التي كانت تقطن القارة الأمريكية قبل الغزو الأوروبي مصطلح “السكان الأصليون” أو “الهنود الحمر” أو “الشعوب الأصلية”، وهي تسميات تختلف في دلالاتها التاريخية والثقافية، لكن جميعها تشير إلى مجموعات بشرية تنتمي إلى جذور ضاربة في القدم، عاشت وازدهرت في أمريكا الشمالية والجنوبية والوسطى منذ آلاف السنين.

أولاً: النشأة والهجرة الأولى إلى الأمريكيتين

تشير الأدلة العلمية والأنثروبولوجية إلى أن السكان الأصليين لأمريكا هاجروا من آسيا عبر مضيق بيرينغ الذي كان يربط سيبيريا بألاسكا خلال العصر الجليدي الأخير قبل حوالي 15,000 إلى 20,000 عام. وقد سلكوا هذا الطريق عندما كان مستوى البحر منخفضاً، مما سمح بعبور اليابسة. ومع الزمن، تفرّعت هذه المجموعات البشرية إلى قبائل وشعوب متعددة استوطنت مختلف مناطق القارة الأمريكية، من المحيط الأطلسي شرقاً إلى الهادئ غرباً، ومن الدائرة القطبية شمالاً إلى باتاغونيا جنوباً.

ثانياً: التنوع الحضاري والثقافي

عرف السكان الأصليون تنوعاً ثقافياً كبيراً، تَمثّل في اختلاف اللغات والعادات والأنظمة الاجتماعية والسياسية والدينية. ومن أبرز الحضارات التي أسّسها السكان الأصليون:

• المايا في أمريكا الوسطى (غواتيمالا، جنوب المكسيك): طوروا تقويماً فلكياً متقدماً، ونظام كتابة هيروغليفي، وكان لديهم فهم دقيق للرياضيات والفلك.

• الأزتك في وسط المكسيك: أنشأوا إمبراطورية ضخمة تميزت بتنظيم عسكري وسياسي متين، وعرفت بتقاليدها الدينية المعقدة التي تشمل تقديم القرابين.

• الإنكا في جبال الأنديز (بيرو، الإكوادور، بوليفيا): بنوا شبكة طرق مذهلة، وتفوقوا في الزراعة المعتمدة على المدرجات الجبلية، وكانت عاصمتهم “كوزكو” من أهم العواصم التاريخية.

• الهوبي، الشيروكي، السيو، الآباش، النافاهو، والإيروكوا: هذه قبائل بارزة في أمريكا الشمالية، عاشت على الصيد والزراعة وجمع الثمار، وكانت لها نظم سياسية ومعتقدات دينية معقدة.

ثالثاً: الأنظمة الاجتماعية والدينية

تميزت القبائل الأصلية بتكوين مجتمعات مترابطة تُدار غالباً بنظام المشيخة أو المجالس القبلية. وكان المجتمع يُقدّر الحكماء والشيوخ الذين يمتلكون المعرفة في الطب التقليدي، والحكايات الموروثة، والمعتقدات الروحية. تُشكّل العلاقة مع الطبيعة والكون حجر الزاوية في معظم الديانات الأصلية، حيث تُعتبر الأرض والأنهار والجبال كائنات حية تستحق التقديس والاحترام. وكانت الطقوس الدينية تشمل الرقص والغناء والأقنعة والرموز المقدسة التي تجسد الأرواح والقوى الخفية.

رابعاً: الاتصال الأوروبي والتأثير المدمر

مع وصول كريستوفر كولومبوس إلى الأمريكيتين عام 1492، بدأت مرحلة مأساوية في تاريخ السكان الأصليين. جلب الأوروبيون معهم أمراضاً فتّاكة مثل الجدري والحصبة والإنفلونزا، التي لم يكن لجهاز المناعة لدى السكان الأصليين أي مناعة ضدها، مما أدى إلى تراجع أعدادهم بشكل كارثي. وتشير بعض التقديرات إلى أن نسبة الوفيات وصلت إلى أكثر من 90% في بعض المناطق خلال القرن السادس عشر.

إضافة إلى الأوبئة، بدأ الأوروبيون في التوسع الاستعماري، مما أدى إلى سلب الأراضي من الشعوب الأصلية، وتدمير مجتمعاتها، وقتل الكثير منهم خلال الصراعات، إلى جانب عمليات التهجير القسري، مثل “درب الدموع” التي أُجبر فيها عشرات الآلاف من قبائل الشيروكي على الرحيل من أراضيهم في جورجيا إلى أوكلاهوما في ثلاثينات القرن التاسع عشر.

خامساً: الإبادة الثقافية والسياسات القمعية

مارست الحكومات الاستعمارية، ثم لاحقاً الولايات المتحدة وكندا، سياسات تهدف إلى “تمدين” السكان الأصليين من خلال إجبارهم على الاندماج في المجتمعات الأوروبية، وتهميش لغاتهم وثقافاتهم. تم إنشاء المدارس الداخلية القسرية التي انتُزِع فيها الأطفال الأصليون من أسرهم وأُجبروا على ترك لغاتهم وثقافتهم، مما أسفر عن آثار نفسية واجتماعية مدمرة ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم.

سادساً: النهضة الثقافية والسياسية في العصر الحديث

رغم كل ما تعرض له السكان الأصليون من إبادة واستعمار وتهجير، فإنهم ما زالوا موجودين، ويشكّلون اليوم جزءاً مهماً من النسيج السكاني في القارة الأمريكية. وقد بدأت منذ منتصف القرن العشرين حركة نهضة ثقافية وسياسية قوية بين الشعوب الأصلية تطالب باسترداد الحقوق والاعتراف بالهوية.

في الولايات المتحدة، تأسست منظمات مثل “الحركة الهندية الأمريكية” (AIM) التي طالبت بالعدالة الاجتماعية والسياسية والثقافية. كما أُقرّت قوانين تعيد بعض الحقوق للسكان الأصليين مثل قانون حرية المعتقدات الدينية للأمريكيين الأصليين (1978) الذي سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية.

سابعاً: السكان الأصليون في الوقت الحاضر

وفقاً لتعداد السكان في الولايات المتحدة لعام 2020، هناك أكثر من 9.7 مليون شخص يُعرفون أنفسهم بأنهم من السكان الأصليين أو من أصول مختلطة تشمل السكان الأصليين، ويمثلون حوالي 2.9% من السكان. ويعيش الكثير منهم في “المحميات” التي تُدار بشيء من الاستقلال الذاتي، بينما يقيم آخرون في المدن الكبرى ويواجهون تحديات اقتصادية واجتماعية متعددة.

أما في كندا، فيُطلق على السكان الأصليين مصطلح “الشعوب الأولى” (First Nations) إضافة إلى “الإنويت” و”الميتي”، ويشكلون حوالي 5% من السكان الكنديين. وتم الاعتراف رسمياً بحقوقهم الدستورية في دستور عام 1982، ورغم التقدم النسبي، إلا أن مجتمعاتهم ما زالت تعاني من التهميش والفقر وسوء الخدمات الصحية والتعليمية.

جدول: مقارنة عامة بين بعض القبائل الأصلية

ثامناً: التحديات المعاصرة

لا تزال الشعوب الأصلية في أمريكا تواجه العديد من التحديات:

• الفقر والبطالة: ترتفع معدلات الفقر في المحميات الأصلية مقارنة ببقية السكان.

• المشاكل الصحية: توجد فجوات واسعة في الرعاية الصحية، ومعدلات مرتفعة من الأمراض المزمنة والإدمان.

• فقدان اللغة والثقافة: لا تزال اللغات الأصلية تتعرض للاندثار، على الرغم من بعض الجهود لإحيائها.

• العنف والتمييز: النساء من السكان الأصليين يواجهن معدلات عالية من العنف، والتمييز المؤسساتي لا يزال قائماً في قطاعات عديدة.

تاسعاً: جهود الإحياء والحفاظ على الهوية

بفضل النشاط الثقافي والسياسي المتزايد، بدأت العديد من المجتمعات الأصلية بإحياء تقاليدها ولغاتها وأشكال تعبيرها الفني. تُدرّس الآن بعض اللغات الأصلية في المدارس المحلية، ويتم تنظيم مهرجانات ثقافية تعزز الهوية الجماعية. كما بدأت الجامعات بفتح أقسام متخصصة في دراسات الشعوب الأصلية، وبدأت أعمال فنية وأدبية من تأليف الكتّاب الأصليين تبرز في المشهد الثقافي الأمريكي.

عاشراً: الاعتراف والمصالحة

في العقود الأخيرة، بدأت بعض الحكومات في الاعتراف بمظالم الماضي، واعتذرت علنًا عن الجرائم التي ارتُكبت ضد السكان الأصليين. كندا، على سبيل المثال، أقرت بلجان الحقيقة والمصالحة، فيما أزالت الولايات المتحدة بعض الرموز العنصرية من الفضاءات العامة، وبدأت بعض الولايات في اعتماد “يوم السكان الأصليين” بديلاً عن “يوم كولومبوس”.

المصادر:

1. Calloway, Colin G. First Peoples: A Documentary Survey of American Indian History. Bedford/St. Martin’s, 2018.

2. Denevan, William M. “The Pristine Myth: The Landscape of the Americas in 1492.” Annals of the Association of American Geographers, 1992.