الركوع والسجود لتخفيف آلام الظهر

الركوع والسجود يخفف من آلام الظهر

في ظل الارتفاع الملحوظ في معدلات الإصابة بآلام الظهر حول العالم، أصبح البحث عن وسائل طبيعية وآمنة للتخفيف من هذه الآلام أمرًا ذا أهمية كبيرة، خاصة في المجتمعات التي تتجه نحو أنماط حياة تتسم بقلة الحركة وزيادة فترات الجلوس. من بين الوسائل التي بدأت تحظى باهتمام علمي متزايد: الركوع والسجود، وهما حركتان محوريتان في الصلاة الإسلامية اليومية. ورغم ارتباطهما بالجانب الروحي والعبادي، إلا أن لهما أيضًا أبعادًا فيزيولوجية وحركية تعود بالفائدة المباشرة على صحة العمود الفقري والجهاز العضلي الهيكلي ككل، لا سيما منطقة أسفل الظهر.

في هذا المقال المطول، سيتم تسليط الضوء على العلاقة الدقيقة بين الركوع والسجود وآلام الظهر، من خلال تحليل علمي تشريحي وفسيولوجي، مع الاستعانة بنتائج دراسات طبية حديثة، بما يضع هذه الحركات ضمن إطار صحي وقائي وعلاجي، إلى جانب قيمتهما التعبدية.

أولًا: الخلفية التشريحية والفسيولوجية لآلام الظهر

يعاني ما يقرب من 80% من البشر من آلام الظهر في مرحلة ما من حياتهم، وغالبًا ما تتركز هذه الآلام في منطقة أسفل الظهر أو ما يُعرف بالمنطقة القطنية. تتكون هذه المنطقة من فقرات مرنة قوية محاطة بعضلات وأربطة، وتتعرض لضغط مستمر نتيجة الجلوس الخاطئ أو الوقوف المديد أو رفع أشياء ثقيلة بطريقة غير صحيحة. من العوامل الشائعة المساهمة في آلام الظهر:

• ضعف عضلات الظهر والبطن.

• التشنجات العضلية المزمنة.

• قلة الحركة والجلوس الطويل.

• الضغط النفسي والعصبي.

• الانزلاق الغضروفي.

الحل لا يكمن فقط في العلاج الدوائي، بل في اعتماد نمط حياة يتضمن حركات جسدية دورية تعمل على تقوية هذه العضلات، وتحسين مرونتها وتخفيف الضغط الواقع على الفقرات. وهذا ما تحققه حركات الركوع والسجود عند أدائها بشكل منتظم وصحيح.

ثانيًا: الركوع والسجود كتمارين حركية ذات تأثير علاجي

1. الركوع

عند الركوع، ينحني الجذع بزاوية 90 درجة تقريبًا مع الحفاظ على استقامة الظهر، وتُمد اليدان نحو الركبتين. هذه الوضعية تحقق عدة فوائد:

• تمديد عضلات أسفل الظهر: الركوع يساعد في بسط العضلات القطنية وتخفيف التوتر والتقلصات المزمنة فيها.

• تحفيز تدفق الدم: هذه الوضعية تسهل وصول الدم المحمل بالأكسجين إلى الفقرات القطنية، مما يعزز من عملية التعافي الطبيعي للخلايا.

• تنشيط عضلات البطن: للحفاظ على التوازن أثناء الركوع، يتم تفعيل عضلات البطن والظهر في آن واحد، ما يساهم في تقويتها بمرور الوقت.

2. السجود

أما السجود، فيتضمن انحناء الجسم بشكل كامل إلى الأمام حتى تلامس الجبهة الأرض، مع تمديد الذراعين والركبتين وتوجيه القدمين للخلف. السجود هو أكثر الأوضاع إفادة للعمود الفقري:

• فك الضغط عن الفقرات القطنية: الوضعية الانحنائية الكاملة تسحب الجاذبية بعيدًا عن الأقراص الفقرية، ما يمنح هذه الأقراص الفرصة للتمدد وإعادة الامتلاء بالسوائل الضرورية.

• استرخاء عضلات الظهر: السجود يُعد وضعية استرخائية للعضلات المحيطة بالعمود الفقري، ما يساعد على تخفيف التشنجات والآلام المزمنة.

• تحسين المرونة العضلية: تكرار السجود يوميًا يُكسب العضلات مرونة أكبر وقدرة على الحركة والانحناء دون ألم.

ثالثًا: الأدلة العلمية والطبية التي تؤكد هذه الفوائد

أشارت دراسات متعددة إلى الأثر الإيجابي الذي تحدثه الحركات المرتبطة بالصلاة على الجهاز العضلي الهيكلي. ومن أبرز هذه الدراسات:

• دراسة منشورة في مجلة Journal of Physical Therapy Science عام 2015، وجدت أن الصلاة الإسلامية تُعد بمثابة تمرين بدني منخفض الشدة، يُحسن من التوازن، ويقلل من تيبّس المفاصل، خاصة لدى كبار السن.

• بحث نُشر في Pakistan Journal of Medical Sciences عام 2013، تناول تأثير الركوع والسجود على الفقرات القطنية، وأثبت أن هاتين الحركتين تُسهمان في تقليل الضغط على العمود الفقري وتخفيف الآلام المزمنة، خصوصًا عند المرضى الذين يعانون من مشكلات في الأقراص الفقرية.

هذه النتائج العلمية تفتح المجال أمام مزيد من الأبحاث حول اعتماد الحركات التعبدية كجزء من البرامج العلاجية لآلام الظهر.

رابعًا: مقارنة بين السجود وبعض أوضاع اليوغا العلاجية

من اللافت أن هناك تقاطعات وظيفية بين وضعية السجود وبعض حركات اليوغا المعتمدة طبيًا لتخفيف آلام الظهر. وضعية “بالاسانا” (وضعية الطفل – Child’s Pose) مثلًا، التي تُستخدم في اليوغا لتخفيف التوتر في منطقة أسفل الظهر، تشبه إلى حد كبير حركة السجود. كلا الوضعيتين تؤديان إلى:

• تمدد العضلات القطنية.

• تقليل الضغط بين الفقرات.

• تعزيز الاسترخاء الذهني والجسدي.

غير أن ما يميز السجود عن اليوغا هو اندماجه الطبيعي في الحياة اليومية للمسلم، دون الحاجة لجلسات تدريبية أو تحفيز خارجي، مما يجعله أكثر استدامة وتأثيرًا على المدى الطويل.

خامسًا: التأثير النفسي المصاحب لحركات الركوع والسجود

لا يمكن إغفال التأثير النفسي والذهني لحركات الصلاة. الركوع والسجود ليسا مجرد تمرينات بدنية، بل هما أيضًا وسيلتان فعالتان لتفريغ التوتر العصبي الناتج عن الضغوط اليومية، وهو أحد العوامل غير المباشرة المساهمة في تفاقم آلام الظهر. فالعلاقة بين الصحة النفسية والعضلية علاقة وثيقة، حيث تؤدي الضغوط النفسية إلى توتر عضلي وتشنجات مزمنة في أسفل الظهر والكتفين. ومع كل ركعة وسجدة، يترافق انبساط عضلي مع استرخاء عصبي، ما يخلق بيئة جسدية ونفسية مثالية للشفاء والتوازن الداخلي.

سادسًا: الوضعيات الصحيحة للركوع والسجود ودورها في تحقيق الفائدة القصوى

لتحقيق الأثر العلاجي الكامل لحركات الركوع والسجود، لا بد من الالتزام بالطريقة الصحيحة في أدائهما، لأن الأخطاء الشائعة قد تؤدي إلى نتائج عكسية. أبرز التوصيات:

أداء هذه الحركات بطريقة مدروسة يُعد تمرينًا متكاملًا للظهر، ولا يقل أهمية عن أي برنامج علاجي حركي معتمد.

سابعًا: دمج الصلاة كروتين علاجي للمرضى وآلام الظهر المزمنة

بدأ بعض الأطباء في الدول الإسلامية والعربية، خصوصًا في مجالات العلاج الطبيعي والتأهيل الحركي، في التوصية بإدراج حركات الركوع والسجود ضمن برامج العلاج الفيزيائي، وخاصةً للمرضى من المسلمين. هذه الحركات تحقق عدة أهداف علاجية:

• إعادة التوازن للعضلات الضعيفة والمشدودة.

• تقليل الاعتماد على الأدوية المسكنة.

• تحسين نوعية النوم وتقليل الأرق المرتبط بالآلام المزمنة.

• دعم الحالة النفسية والمعنوية للمرضى، مما ينعكس على سرعة الشفاء.

المدهش أن هذا النوع من العلاج لا يتطلب تجهيزات أو أدوات خاصة، ويُؤدى ضمن سياق يومي متكرر، مما يجعله أكثر فاعلية من بعض البرامج المكلفة والمعقدة.

ثامنًا: توصيات نهائية مبنية على البحوث

استنادًا إلى ما سبق من تحليل تشريحي ونتائج دراسات علمية موثوقة، يمكن تلخيص أثر الركوع والسجود على آلام الظهر في النقاط التالية:

• تمثل حركات الركوع والسجود وسيلة وقائية وعلاجية طبيعية لتخفيف الضغط على العمود الفقري.

• توفر هذه الحركات استرخاءً عضليًا، وتحسن الدورة الدموية في المناطق المتأثرة.

• تتشابه هذه الحركات مع بعض التمارين العلاجية المعتمدة في برامج اليوغا والعلاج الفيزيائي، ولكن مع اندماجها اليومي ضمن طقوس العبادة.

• يجب أداء هذه الحركات ضمن الوضعيات الصحيحة للاستفادة القصوى وتجنب الإصابات.

المصادر:

1. Al-Qarni, M., et al. (2015). Effect of Islamic prayer positions on the lumbar spine. Journal of Physical Therapy Science, 27(7), 2133–2136. https://doi.org/10.1589/jpts.27.2133

2. Awan, W. A., et al. (2013). The effect of prayer (Salat) on back pain: A review of literature. Pakistan Journal of Medical Sciences, 29(2), 469–472.