الرضا بقضاء الله: سكينة القلب

الرضا بقضاء الله: جوهر الطمأنينة وأساس الإيمان

يُعدّ الرضا بقضاء الله وقدره من أسمى مراتب الإيمان، ومن أعظم مقامات التوكل والتسليم. وهو ليس فقط موقفًا داخليًا يتخذه المؤمن تجاه ما يجري في حياته من خير أو شر، بل هو تجلٍ عميق لليقين بالله وحسن الظن به، وهو كذلك ثمرة من ثمار المعرفة بالله تعالى وبصفاته، خاصةً عدله وحكمته ورحمته بعباده.

إن في حياة كل إنسان محطات من البلاء والمحن، كما فيها أيام من الفرح والسرور. ولكنّ التفاوت الحقيقي بين الناس لا يكمن في مقدار ما ينالهم من السراء أو الضراء، وإنما في كيفية تعاطيهم مع هذه الأقدار. ومن هنا تتجلى أهمية الرضا كقيمة إيمانية وسلوكية، إذ إنه يجلب السكينة للنفس، ويحرر الإنسان من التذمر والسخط، ويمنحه قوة مواجهة الحياة بثبات واتزان.

مفهوم الرضا بقضاء الله

الرضا هو: اطمئنان القلب إلى ما قدّره الله للعبد، وعدم الاعتراض على مشيئة الله في جميع الأحوال. وهو يختلف عن الصبر، فالصبر هو حبس النفس عن الجزع والتسخط، أما الرضا فهو أعلى من ذلك، إذ يتضمن محبة ما جرى به القضاء، وقبولًا تامًا له دون تردد أو قلق.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “الرضا باب الله الأعظم، ومستراح العابدين، وجنة الدنيا، ومن لم يدخل جنة الدنيا لم يدخل جنة الآخرة”. وهذا الكلام يشير إلى أن الرضا ليس فقط عبادة، بل هو حالة من السلام الداخلي والسعادة القلبية يعيشها المؤمن مهما كانت الظروف.

أهمية الرضا في العقيدة الإسلامية

الرضا بقضاء الله من مقتضيات التوحيد، ومن علامات صدق الإيمان. فالله سبحانه هو العليم الحكيم، لا يقع في ملكه شيء عبثًا، ولا يُقدر على عباده أمرًا إلا لحكمة، قد نعلمها وقد تغيب عنا. ومن هنا كان الرضا تجليًا لليقين الكامل بعدالة الله ولطفه ورحمته، كما يعكس الإيمان بأن كل ما يحدث هو لمصلحة العبد، ولو لم يظهر له ذلك في حينه.

قال رسول الله ﷺ:

“عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له” (رواه مسلم).

وفي هذا الحديث تأكيد على أن حياة المؤمن كلها خير، متى ما اقترنت بالصبر والرضا، لأن قلبه موصول بالله في كل حال.

أقوال السلف والعلماء في الرضا

لقد تحدث العلماء والحكماء كثيرًا عن منزلة الرضا، واعتبروه أحد الأركان الأساسية في بناء النفس المؤمنة.

• قال الحسن البصري رحمه الله: “من رضي بما قسم الله له وسعته البركة، ومن لم يرض لم يزده الحرص إلا فقرًا”.

• وقال عمر بن عبد العزيز: “أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر”.

• وقال سفيان الثوري: “ما أحب أن يكون لي بموالاة أهل الدنيا، رضا عن الله في قدره”.

كما جاء في كتاب “مدارج السالكين” لابن القيم:

“الرضا أصل جميع المقامات، وهو ينبع من المعرفة بالله، وكلما ازداد العبد معرفةً بربه ازداد رضاه به، فإن الرضا لا يتولد من الجهل، بل من العلم بحكمة الله وعدله وقدرته”.

الرضا في القرآن الكريم

القرآن الكريم ذكر الرضا في مواضع عدة، إما كصفة لأهل الإيمان، أو كجزاء عظيم أعده الله للرضيين بقضائه. ومن أعظم الآيات التي تُعبّر عن هذا المفهوم:

• ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [المائدة: 119].
  
  هذه الآية تصف أهل الجنة بأنهم نالوا أعظم درجات القرب، وهي الرضا المتبادل بين العبد وربه.

• ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ [التغابن: 11].
  
  قال بعض المفسرين: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم.

• ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
  
  والصبر المقترن بالرضا هو أعلى مراتب الصبر، وقد وعد الله عليه الأجر الوفير.

آثار الرضا في النفس والحياة

الرضا ليس فقط عبادة قلبية، بل له آثار عملية واضحة تنعكس على حياة الإنسان سلوكًا ومزاجًا وقرارات.

1. الطمأنينة والسكينة

القلب الراضي مطمئن لا يضطرب مهما اشتدت عليه الدنيا. فإن أدرك العبد أن الله لا يظلمه، وأن ما قدره له هو الخير، مهما بدا مؤلمًا، استراح من الهم والتفكير المجهد.

2. التحرر من القلق والمقارنة

الرضا يحرر الإنسان من آفة المقارنة مع الآخرين، ومن السخط الناتج عن رؤية النقص في ما يملكه. فالراضي لا ينظر لما في يد غيره، لأنه يعلم أن نصيبه من الدنيا قد كتبه الله له.

3. تعزيز الثقة بالله

الراضي دائمًا متوكل، واثق أن تدبير الله خير من تدبيره، وأن اختيارات الله له أفضل من كل ما كان يتمنى.

4. تهذيب النفس وكبح الأهواء

الرضا يروض النفس، ويجعلها مطواعة، غير جشعة ولا متذمرة، وهذا يفتح للعبد أبواب العبادة والسمو الروحي.

العلاقة بين الرضا والتوكل والصبر

الرضا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بكل من التوكل والصبر، إذ إن هذه الثلاثة تشكل مثلثًا ذهبيًا في العقيدة والسلوك الإسلامي:

كل واحد من هذه المقامات يُعزز الآخر، فالصابر لا يثبت إلا بتوكله، والراضي لا يرضى إلا بيقينه، والمتوكل لا يسلم إلا بصبره ورضاه.

نماذج من الرضا في حياة الأنبياء والصالحين

يُعدّ الأنبياء أعظم من تجسدت فيهم معاني الرضا، وفي مقدمتهم نبي الله أيوب عليه السلام، الذي ابتُلي في بدنه وماله وأهله، ومع ذلك كان يقول: “اللهم إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين” [الأنبياء: 83]، فكان دعاؤه خاليًا من الشكوى، مليئًا بالرضا والثقة في رحمة الله.

وكذلك إبراهيم عليه السلام، حين أُمر بذبح ابنه، استجاب دون اعتراض، وقال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات: 102]، وكان استسلامه الكامل لمشيئة الله قمة في الرضا والطاعة.

وفي سيرة النبي محمد ﷺ، نجد مواقف عظيمة للرضا، خاصة في عام الحزن، حين فقد خديجة وعمه أبي طالب، ومع ذلك ظل يواصل دعوته بثبات وطمأنينة، لأنه كان يعلم أن ما يجري به قضاء الله لا يمكن إلا أن يكون خيرًا.

كيف يتحقق الرضا عمليًا

الرضا لا يأتي فجأة، وإنما هو ثمرة تدريب نفسي وسلوكي وإيماني طويل. ويمكن تلخيص بعض الوسائل العملية لتحقيق الرضا فيما يلي:

• تعميق المعرفة بالله وصفاته: فكلما ازداد العبد علمًا بعدل الله وحكمته، ازداد رضاه.

• الانشغال بالنعم لا بالنقم: تذكر نعم الله المتعددة يخفف من أثر المصائب ويقوي القلب.

• الإكثار من الدعاء: وخصوصًا طلب الرضا، كما كان النبي ﷺ يدعو:
  
  “اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء”.

• تدريب النفس على التسليم: بقبول الأمور التي لا يمكن تغييرها وعدم الإلحاح في الاعتراض.

• مرافقة أهل الرضا: فصحبة الصالحين تُنعش الإيمان وتعين على الطاعة.

خاتمة

الرضا بقضاء الله هو مقام رفيع لا يبلغه إلا من تحقق بإيمان راسخ، ونظر إلى الحياة بمنظار الآخرة، وأيقن أن ما من شيء يجري إلا بأمر الله، وأنه سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم. إنه عبادة قلبية تنعكس نورًا على الوجه، وسكينة في القلب، وراحة في البال. فمن رزقه الله الرضا فقد أوتي الخير كله، ومن حُرم منه عاش متقلبًا بين الجزع والسخط مهما نال من متاع الدنيا.

المراجع:

1. ابن القيم، مدارج السالكين.

2. الإمام النووي، شرح صحيح مسلم.