الرجل أكثر ثرثرة علميًا

الرجل ثرثار أكثر من المرأة: دراسة علمية تكشف الحقائق

مقدمة

لطالما كانت الفروقات اللغوية والسلوكية بين الجنسين محور اهتمام الباحثين وعامة الناس، حيث ارتبطت صورة “الثرثرة” تقليديًا بالمرأة في المخيال الشعبي والثقافة الاجتماعية. إلا أن الدراسات العلمية الحديثة قد قلبت هذه الصورة النمطية رأسًا على عقب، لتكشف أن الرجال في الواقع قد يكونون أكثر ثرثرة من النساء في سياقات متعددة. هذا التحول في الفهم لا يسلط الضوء على مجرد فارق في عدد الكلمات، بل يكشف عن تعقيدات أعمق تتعلق بالبنية الدماغية، والوظائف المعرفية، والاجتماعية، والنفسية التي تحكم استخدام اللغة لدى الجنسين.

يعتمد هذا المقال على نتائج دراسات علمية منشورة في مجلات علم النفس واللغويات العصبية، ويغوص في أبعاد الظاهرة من الناحية البيولوجية والاجتماعية والتطورية والثقافية، مستعرضًا الأبحاث التي أعادت تشكيل تصوراتنا حول من يتحدث أكثر: الرجل أم المرأة؟

أصل الصورة النمطية: المرأة والثرثرة في الثقافة

عبر قرون من التاريخ، تم تصوير المرأة في الفولكلور، والأمثال الشعبية، والنصوص الدينية، والأدب، على أنها الطرف الأكثر حديثًا والأقل قدرة على كتم الأسرار أو الامتناع عن الكلام. تنتشر في مختلف الثقافات عبارات مثل “لسان المرأة لا يتوقف” أو “النساء يتحدثن أكثر من اللازم”، وهو ما تم تعزيزه عبر الأجيال دون وجود سند علمي دقيق.

لكن هذا الانطباع، كما أثبتت الأبحاث العلمية، يرتكز على التحيزات المجتمعية لا على البيانات الموضوعية. إذ يشير علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا إلى أن هذه الصور النمطية ما هي إلا انعكاس لديناميات القوة والسيطرة في المجتمعات الذكورية، التي سعت إلى تهميش صوت المرأة عبر اتهامها بالمبالغة أو قلة الانضباط اللفظي.

التحليل العلمي للثرثرة: عدد الكلمات وتوزيعها بين الجنسين

في عام 2007، نشرت مجلة Science دراسة رائدة أُجريت في جامعة تكساس بقيادة البروفيسور جيمس بينيبايكر، استخدمت جهاز تسجيل رقمي لتتبع عدد الكلمات التي يتحدث بها الرجال والنساء يوميًا. بعد تحليل آلاف الساعات من التسجيلات في بيئات متعددة، تبين أن متوسط عدد الكلمات اليومية لكل من الرجال والنساء كان متقاربًا جدًا، حيث بلغ حوالي 16,000 كلمة في اليوم. المفاجأة كانت أن الرجال في بعض الحالات كانوا أكثر حديثًا من النساء، خاصة في السياقات المهنية أو الرسمية.

كما دعمت دراسة لاحقة أُجريت في جامعة ماري لاند ونُشرت في The Journal of Neuroscience نتائج مماثلة، مشيرة إلى أن الرجال يستخدمون كمية أكبر من الكلمات عندما يكون الموضوع متعلقًا بالمنافسة، أو السلطة، أو إبراز الذات، وهي مواقف تظهر بشكل متكرر في الحياة العامة والمهنية.

الدماغ واللغة: الفروق العصبية بين الجنسين

تؤكد البحوث في مجال اللغويات العصبية أن هناك فروقات تركيبية ووظيفية في أدمغة الرجال والنساء تؤثر على استخدام اللغة. على سبيل المثال، تُظهر الدراسات التصويرية أن مراكز اللغة لدى المرأة تتوزع في جانبي الدماغ، بينما تميل إلى التمركز في النصف الأيسر فقط عند الرجل. هذا قد يعني أن المرأة تعالج اللغة بشكل أكثر تكاملًا، مما يمكنها من انتقاء الكلمات بعناية أكبر وتوظيف اللغة في السياقات العاطفية والاجتماعية بكفاءة أعلى.

في المقابل، يميل الرجال إلى استخدام اللغة كوسيلة لبسط النفوذ أو إثبات الذات في المواقف التفاعلية، وهو ما يفسر كثرة كلامهم في السياقات الرسمية والمهنية والاجتماعية التنافسية. وقد رُبط ذلك بمستويات هرمون التستوستيرون الذي يعزز الميل إلى السلوك التنافسي والميل إلى السيطرة اللفظية على الموقف.

الثرثرة كأداة اجتماعية: دوافع الاستخدام بين الرجل والمرأة

الثرثرة ليست مجرد زيادة في عدد الكلمات، بل هي شكل من أشكال التفاعل الاجتماعي. تستخدم النساء عادة الكلام لأغراض الترابط العاطفي، وتبادل الدعم، وبناء العلاقات الاجتماعية. أما الرجال، فيستخدمون اللغة بشكل أكبر كوسيلة لعرض المعرفة، أو الهيمنة في المحادثة، أو توجيه الحوار نحو أهداف محددة.

تُظهر أبحاث علم النفس الاجتماعي أن الرجال يسيطرون على الحوار في المحادثات المختلطة (أي بين الجنسين)، ويتحدثون لفترة أطول، ويقاطعون أكثر من النساء. كما يميلون إلى استخدام الجمل الخبرية المباشرة، مقارنة بالنساء اللواتي يستخدمن اللغة التلطيفية، والتلميح، والأسئلة التفاعلية.

البيئة والسياق: متغيرات تؤثر في كثافة الكلام

السياق له دور محوري في تحديد من يتحدث أكثر. فقد بيّنت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) أن النساء أكثر كلامًا في السياقات الخاصة، كالعائلة والمجموعات النسائية الصغيرة، في حين أن الرجال يكونون أكثر ثرثرة في الاجتماعات، والمؤتمرات، والمواقف العامة.

كما كشفت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن الرجال يتحدثون أكثر في المواقف التي تُشجع على بروز المكانة الاجتماعية، مثل الحوارات السياسية أو اللقاءات الرسمية، فيما تفضل النساء الإنصات وتدوين الملاحظات في مثل هذه السياقات، حتى عندما يكنّ أكثر دراية بموضوع النقاش.

الهرمونات واللغة: التأثير البيوكيميائي

الهرمونات تلعب دورًا مهمًا في تشكيل أنماط الكلام لدى الجنسين. فهرمون الأوكسيتوسين، الذي يفرز بمستويات أعلى لدى النساء، يعزز من استخدام اللغة في التعبير العاطفي والتواصل الحميم. أما التستوستيرون، فيزيد من التوجه نحو السلوك التنافسي، ما ينعكس في كثرة الحديث لدى الرجال في السياقات التي تتطلب فرض الحضور أو إظهار السيطرة.

وقد أظهرت دراسات طبية أن زيادة أو نقص بعض الهرمونات يؤثر مباشرة على مخرجات اللغة وعدد الكلمات المنتجة، مما يثبت العلاقة العضوية بين الكيمياء الحيوية والسلوك اللفظي.

التحليل الكمي للثرثرة: الجدول التوضيحي

فيما يلي جدول يوضح متوسط عدد الكلمات المستخدمة يوميًا من قِبل الجنسين حسب السياق:

التربية وتأثير التنشئة الاجتماعية

تبدأ الفروقات في استخدام اللغة بين الجنسين منذ الطفولة، حيث يتعرض الذكور والإناث لأساليب تربية مختلفة تعزز أو تحد من الميل إلى الثرثرة. غالبًا ما يُشجع الذكور على التعبير عن الرأي والتحدث بصوت عالٍ، بينما تُثنى الإناث على الصمت والتأدب واللباقة. هذا التمييز المبكر في المعاملة يُترجم لاحقًا إلى أنماط تواصل مختلفة، قد تخلق وهمًا حول من هو “الأكثر ثرثرة”.

كما أن المدارس والأنظمة التعليمية قد تساهم في تكريس هذا التفاوت، من خلال تركيزها على مشاركة الذكور في المناقشات الصفية وتجاهل الأصوات النسائية، ما يدفع النساء لاحقًا إلى الامتناع عن الحديث في الأماكن العامة، رغم امتلاكهن الكفاءة اللغوية.

المتغيرات الثقافية: نظرة مقارنة بين الشعوب

الثرثرة ليست سلوكًا عالميًا يمكن قياسه بنفس المعيار في جميع الثقافات. ففي المجتمعات الغربية، يُشجع الرجال على التحدث والمشاركة، مما يزيد من نسبة الكلمات المستخدمة لديهم. في المقابل، في مجتمعات أخرى، قد تُفرض قيود اجتماعية على الرجال أو النساء تحد من حرية التعبير اللفظي، مما يؤثر على أنماط الحديث.

تُظهر الدراسات المقارنة في علم الأنثروبولوجيا اللغوية أن الرجال في بعض القبائل الأمازونية مثل قبيلة “بيراها” أقل كلامًا من النساء، بينما في المجتمعات اليابانية تُهيمن الذكورية اللفظية في اللقاءات الرسمية، رغم أن النساء أكثر نشاطًا لغويًا داخل العائلة.

خاتمة

تكشف الدراسات العلمية والتحليلات السلوكية أن الادعاء القائل بأن “النساء أكثر ثرثرة من الرجال” لا يستند إلى دليل علمي موضوعي، بل هو نتاج لتراكمات ثقافية وصور نمطية تم تناقلها عبر الأجيال. الواقع العلمي يشير إلى أن الرجال قد يكونون أكثر ثرثرة في سياقات معينة، خصوصًا تلك التي تتطلب بروز المكانة، وفرض السيطرة، أو عرض المعرفة.

التفاعل بين العوامل البيولوجية، والبيئية، والاجتماعية، يجعل من مسألة “من يتحدث أكثر؟” موضوعًا معقدًا يتجاوز الأرقام البسيطة، ليعكس بنية المجتمع ودينامياته، بالإضافة إلى طبيعة كل جنس في التعبير عن الذات. لذلك، فإن إعادة النظر في الصور النمطية حول الثرثرة لا تعني فقط تصحيح معلومات، بل أيضًا فتح آفاق لفهم أعمق لسلوك الإنسان وتواصله داخل المجتمع.

المراجع:

1. Mehl, M. R., Vazire, S., Ramirez-Esparza, N., Slatcher, R. B., & Pennebaker, J. W. (2007). Are women really more talkative than men? Science, 317(5834), 82.

2. Brizendine, L. (2006). The Female Brain. Broadway Books.