الدراسة والعمل للاجئين في هولندا: تحديات الواقع وآفاق المستقبل

تمثل قضية اللاجئين في أوروبا واحدة من أكثر القضايا الاجتماعية والسياسية والإنسانية تعقيدًا في العصر الحديث، وتُعد هولندا من أبرز الدول التي استقبلت عددًا كبيرًا من اللاجئين في العقود الأخيرة، لا سيما بعد موجة النزوح الكبرى التي أعقبت الصراعات في سوريا والعراق وأفغانستان. ووسط هذا التدفق البشري، برزت قضايا الاندماج، والتعليم، وسوق العمل كعناصر مركزية في النقاش حول اللاجئين، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين يطمحون لإعادة بناء حياتهم في بلد جديد يختلف عن موطنهم من حيث اللغة، والثقافة، والنظام الاجتماعي. وفي هذا السياق، يُعد موضوع الدراسة والعمل للاجئين في هولندا من أبرز المواضيع التي تستوجب التناول المعمّق، لما له من تأثير مباشر على فرصهم في الاندماج والاستقرار والمساهمة الفعّالة في المجتمع الهولندي.

الإطار القانوني لوضع اللاجئين في هولندا

تخضع إقامة اللاجئين في هولندا لإطار قانوني منظم ومستند إلى اتفاقية جنيف لعام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، بالإضافة إلى التشريعات الأوروبية والهولندية. عند وصول اللاجئ إلى الأراضي الهولندية، يبدأ مسار تقديم طلب اللجوء، الذي يخضع للتدقيق من قبل “مصلحة الهجرة والتجنس” (IND). وفي حال الموافقة على الطلب، يحصل اللاجئ على تصريح إقامة مؤقتة لمدة خمس سنوات، قابلة للتجديد، ويُمنح حقوقًا معينة، من بينها الحق في التعليم والعمل.

ينص القانون الهولندي على أن كل من يحصل على تصريح إقامة له الحق في الالتحاق بالتعليم العام والعمل في مختلف القطاعات وفقًا لمؤهلاته. غير أن هذه الحقوق لا تُترجم دائمًا إلى واقع ملموس بسهولة، إذ يواجه اللاجئون في طريقهم لتحقيق هذه الأهداف العديد من العقبات، اللغوية، البيروقراطية، والاجتماعية.

التحديات اللغوية والثقافية في مسار التعليم

اللغة الهولندية تمثل العقبة الأولى والأكبر أمام اللاجئين الراغبين في الدراسة أو العمل. فالنظام التعليمي الهولندي يعتمد بالكامل على اللغة الهولندية، باستثناء بعض البرامج الجامعية التي تُدرّس بالإنجليزية. ولهذا، يُطلب من اللاجئين الالتحاق بدورات اللغة (المعروفة باسم “الاندماج المدني” أو Inburgering) كشرط أساسي للاندماج، والحصول على فرصة في سوق العمل أو في التعليم العالي.

غالبًا ما يكون مستوى التعليم السابق للاجئين غير معترف به بشكل مباشر في هولندا، ما يستدعي تقييم المؤهلات من قبل مؤسسات متخصصة مثل Nuffic. بالإضافة إلى ذلك، يُجبر كثير من اللاجئين على البدء من مستويات تعليمية أدنى بسبب عدم قدرتهم على إثبات مؤهلاتهم أو بسبب ضعف المستوى اللغوي، وهو ما يؤدي إلى تأخير مسارهم المهني والتعليمي.

علاوة على اللغة، تمثل الفروقات الثقافية تحديًا آخر، خصوصًا في بيئة تعليمية تتسم بالحرية الأكاديمية، والاستقلالية، والتفكير النقدي، وهي خصائص قد تكون غير مألوفة لبعض اللاجئين القادمين من أنظمة تعليمية تقليدية أو صارمة.

إمكانيات التعليم المتاحة للاجئين

تقدم الحكومة الهولندية فرصًا متعددة للاجئين للالتحاق بالتعليم، تشمل المدارس الابتدائية والثانوية، والتعليم المهني، والتعليم العالي. ويتم توزيع الأطفال اللاجئين على المدارس في المناطق التي يتم توطينهم فيها، ويخضعون أولاً لدورات مكثفة في اللغة ضمن ما يُعرف بـ “صفوف استقبال اللاجئين” (ISK).

أما البالغون، فتتاح لهم إمكانية متابعة الدراسة عبر برامج التعليم المهني المتوسط (MBO) والتعليم العالي المهني (HBO)، أو حتى الجامعات. إلا أن القبول في هذه المؤسسات التعليمية يعتمد على اجتياز امتحانات اللغة الهولندية، واجتياز متطلبات القبول الأكاديمية.

إلى جانب ذلك، تقدم بعض الجامعات والمؤسسات مبادرات خاصة للاجئين، مثل برنامج “UAF” الذي يقدّم منحًا دراسية، واستشارات، ودعمًا ماليًا للاجئين من أجل متابعة التعليم العالي. وقد ساهم هذا البرنامج في تمكين آلاف اللاجئين من إكمال دراستهم والاندماج في سوق العمل الهولندي.

التكوين المهني كجسر للاندماج

يشكل التكوين المهني أحد أهم الأدوات التي تستخدمها الدولة الهولندية لتمكين اللاجئين من الاندماج الاقتصادي. فبرامج التعليم المهني المتوسط (MBO) تُقدّم مسارات متنوعة تشمل الحرف اليدوية، والتمريض، والتكنولوجيا، والمبيعات، ويتم فيها التركيز على التطبيق العملي جنبًا إلى جنب مع الدراسة النظرية.

هذه البرامج تُعتبر وسيلة فعّالة لتمكين اللاجئين من دخول سوق العمل، خصوصًا عندما تكون مرفقة بفترات تدريب داخل المؤسسات (Stage)، مما يسمح بتجربة بيئة العمل الهولندية وتكوين علاقات مهنية قد تسهم لاحقًا في الحصول على وظيفة دائمة.

سوق العمل الهولندي وظروف اللاجئين

رغم حصول اللاجئين على حق العمل بمجرد حصولهم على تصريح الإقامة، إلا أن نسبة العاملين منهم تظل منخفضة نسبيًا مقارنة ببقية السكان. وتشير الدراسات إلى أن الكثير من اللاجئين يستغرقون سنوات عدة قبل الحصول على أول وظيفة مدفوعة الأجر، وذلك بسبب الحواجز اللغوية، وضعف الشبكات الاجتماعية، وعدم الاعتراف بالمؤهلات السابقة.

إضافة إلى ذلك، يعاني العديد من اللاجئين من تهميش وظيفي (Underemployment)، حيث يُجبرون على العمل في وظائف متدنية لا تتناسب مع مؤهلاتهم أو خبراتهم السابقة. ويُلاحظ أن الكثير منهم يشتغلون في قطاعات النظافة، والمطاعم، أو الخدمات اللوجستية، رغم أن بعضهم يحمل شهادات جامعية في الطب أو الهندسة أو التعليم.

ويُعد التمييز في سوق العمل من التحديات التي تعرقل مسار اللاجئين، حيث أظهرت دراسات عدة أن الأسماء ذات الطابع الأجنبي تقلل من فرص دعوة الشخص للمقابلات الوظيفية مقارنة بالأسماء الهولندية، حتى عند تساوي المؤهلات.

برامج دعم حكومية ومجتمعية

سعياً إلى تحسين فرص اللاجئين في سوق العمل، أطلقت الحكومة الهولندية مجموعة من المبادرات، من بينها برامج “المسارات السريعة للاندماج”، التي تهدف إلى تسريع اكتساب اللغة وربط اللاجئ مباشرة بفرص العمل أو التعليم المهني. كذلك، توجد مبادرات محلية في البلديات، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، تقدم دورات تدريبية، وورش عمل، وتوجيه مهني فردي.

أما على مستوى المجتمع، فقد برزت مبادرات أهلية ومبادرات من القطاع الخاص تهدف إلى إدماج اللاجئين، من خلال برامج تدريبية، وشراكات مع شركات محلية، ومرافقة مهنية Mentorship للمساعدة في تجاوز الحواجز الثقافية واللغوية.

إحصائيات ومؤشرات عن اللاجئين والدراسة والعمل في هولندا

يبين الجدول التالي بعض الإحصائيات حول اللاجئين في هولندا حسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء الهولندي (CBS):

هذه الأرقام تعكس التقدم النسبي في ملف التعليم والعمل، لكنها في الوقت نفسه تسلط الضوء على الفجوة الكبيرة بين الفرص النظرية والواقع العملي.

قصص نجاح تبرز إمكانيات اللاجئين

رغم التحديات، نجح العديد من اللاجئين في هولندا في التغلب على العقبات وبناء حياة مهنية وأكاديمية ناجحة. من بين هؤلاء نجد لاجئين سوريين تمكنوا من إتمام دراساتهم الجامعية في مجالات مثل الطب والعلوم السياسية والهندسة، والتحقوا بمؤسسات تعليمية مرموقة مثل جامعة أمستردام أو جامعة دلفت للتكنولوجيا. كما تمكن بعضهم من تأسيس مشاريع خاصة في مجالات الطعام والخدمات الرقمية والتعليم.

نجاحات هؤلاء تشكل دليلاً واضحًا على أن اللاجئ لا يُمثل عبئًا، بل قد يكون إضافة نوعية للمجتمع المضيف إذا توفرت له الأدوات والدعم الكافي للانطلاق.

دور الجامعات والمؤسسات الأكاديمية

تلعب الجامعات الهولندية دورًا حيويًا في تعزيز فرص اللاجئين التعليمية، حيث أطلقت العديد منها برامج خاصة مصممة للاجئين، تتضمن دورات لغوية، ودورات تحضيرية (Bridging Programs)، وورش توجيه أكاديمي. كما تقدم بعض الجامعات خصومات مالية أو منحًا دراسية خصيصًا للاجئين.

من جهة أخرى، تدعم مؤسسات مثل “UAF” بشكل مباشر اللاجئين الراغبين في استكمال دراستهم العليا، من خلال تمويل الرسوم الدراسية وتوفير مرشدين أكاديميين لمساعدتهم في التكيف مع النظام الجامعي الهولندي.

آفاق المستقبل: نحو اندماج شامل ومستدام

الحديث عن الدراسة والعمل للاجئين في هولندا لا يمكن أن يقتصر على الجانب التشريعي أو الإداري، بل يتعداه إلى ضرورة التفكير في حلول طويلة الأمد ومستدامة تضمن اندماج اللاجئين بشكل فعّال في النسيج الاجتماعي والاقتصادي.

تحسين التعليم اللغوي، وتسريع إجراءات معادلة الشهادات، وتوسيع نطاق برامج التدريب المهني، وتوفير حوافز لأرباب العمل لتوظيف اللاجئين، تعد خطوات أساسية يجب أن تستمر وتتطور. كذلك، يجب دعم اللاجئين نفسيًا واجتماعيًا لمواجهة آثار الصدمات التي تعرضوا لها، مما يعزز من قدرتهم على الاستفادة من الفرص المتاحة.

المصادر

1. Centraal Bureau voor de Statistiek (CBS) – Data on Refugees in the Netherlands, 2023.

2. UAF – Stichting voor Vluchteling-Studenten, officiële website: www.uaf.nl

هل ترغب بمقال مماثل عن بلد أوروبي آخر مثل ألمانيا أو السويد؟