الحياة الزوجية… يخنقها “الحب الكثير”

مقدمة

يُعدّ الحبّ أحد أهم الركائز التي تقوم عليها الحياة الزوجية. فمنذ القدم، وُصف الحب بأنه القوة الدافعة التي تُبقي على تماسك الأسرة، وتجعل من العلاقة بين الزوجين رابطة عاطفية متينة قائمة على المودة والرحمة. ومع ذلك، فإن الإفراط في أي شيء قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حتى وإن كان ذلك الشيء هو الحب ذاته. ففي بعض العلاقات الزوجية، يتحوّل الحب المفرط من نعمة إلى عبء، ومن مصدر للراحة إلى وسيلة للخنق، حيث يؤدي إلى اختلال في توازن العلاقة، واضطراب في الأدوار، وتحول الطرف الآخر من شريك إلى سجين.

الحب الكثير لا يعني بالضرورة دفئًا زائدًا أو حنانًا مضاعفًا، بل قد يأخذ طابعًا تملكيًا، قهريًا، وملحًا، يجرد الآخر من خصوصيته، ويقيد حريته، ويخلق شعورًا خانقًا لا يُحتمل. وتكمن خطورة هذا النوع من الحب في أنه يتخفى تحت عباءة العاطفة والاهتمام، لكنه في حقيقته يعكس حالة من عدم النضج العاطفي، وانعدام الثقة بالنفس، والقلق الدائم من فقدان الآخر.

الحب المفرط: تعريفه ومظاهره

الحب المفرط لا يعني مجرد مشاعر قوية تجاه الشريك، بل هو سلوك يتجاوز الحد الطبيعي للاهتمام، ويتحول إلى مراقبة دائمة، تطفل مفرط، وتعلق مرضي. من أبرز مظاهره:

• الاتصال المتكرر بالشريك دون مبرر حقيقي.

• الشعور بالغيرة المرضية من أي علاقة أخرى للشريك، حتى تلك البريئة.

• التدخل المستمر في تفاصيل حياة الطرف الآخر.

• فرض السيطرة على طريقة اللباس، اختيار الأصدقاء، وحتى الأنشطة اليومية.

• إغراق الطرف الآخر بالإطراءات أو الهدايا بشكل مفرط يعكس رغبة في امتلاكه.

• تحميل الشريك مسؤولية السعادة الشخصية للطرف الآخر بالكامل.

هذه المظاهر لا تنبع من حب نقي خالص، بل من حالة اختلال عاطفي داخلي. فالحب الحقيقي يحرر، لا يقيد. يدعم، لا يخنق. يمنح الشعور بالأمان، لا بالتهديد.

الأسباب النفسية والاجتماعية للحب الخانق

ترتبط الرغبة المفرطة في الحب والتملك بعدة عوامل نفسية واجتماعية، منها:

1. انعدام الثقة بالنفس

الشخص الذي لا يثق في قيمته الذاتية يسعى دومًا للحصول على تأكيد خارجي لوجوده، ويجد في الشريك مصدرًا لهذا التوكيد. فيُصبح الحب بالنسبة له وسيلة للبقاء، وليس مشاركة حقيقية.

2. الخوف من الهجر

هذا الخوف غالبًا ما يكون متجذرًا في تجارب الطفولة، مثل الإهمال العاطفي أو فقدان أحد الوالدين. فيكبر الفرد وهو يشعر بالخوف من أن يتخلى عنه الآخرون، ما يجعله متشبثًا بهم إلى درجة الخنق.

3. التصور الرومانسي المبالغ فيه

تلعب الأفلام والمسلسلات والقصص الرومانسية دورًا كبيرًا في تشكيل صورة مثالية للحب، تقوم على الذوبان الكامل في الآخر، والانصهار التام. وهذه الصورة تزرع أوهامًا تؤدي في النهاية إلى سلوكيات غير صحية في الواقع.

4. القلق والاضطرابات العاطفية

في بعض الأحيان، يكون الحب المفرط أحد أعراض اضطرابات القلق أو التعلق المرضي، حيث يشعر الفرد بأنه لا يستطيع الاستمرار في الحياة دون الطرف الآخر.

آثار الحب الكثير على الحياة الزوجية

1. فقدان التوازن في العلاقة

في العلاقات الصحية، يكون الحب متبادلاً، والاهتمام موزعًا بين الطرفين بشكل متكافئ. أما في حالات الحب المفرط، فإن أحد الطرفين يأخذ دور “المُنقذ” أو “المانح” بينما يتحول الآخر إلى “متلقٍ” أو “ضحية”، مما يخلق عدم توازن مزمن يؤدي إلى اختلال في الأدوار الزوجية.

2. انعدام الخصوصية

من سمات الحب الخانق رغبة أحد الطرفين في معرفة كل تفاصيل حياة الآخر، حتى تلك التي لا تعنيه، مما يؤدي إلى تآكل الخصوصية الشخصية. وغياب الخصوصية يُفقد العلاقة عنصر الاحترام المتبادل، ويخلق شعورًا دائمًا بالضغط والانزعاج.

3. خلق بيئة مشحونة بالتوتر

عندما يشعر أحد الزوجين بأنه مراقب باستمرار، ومحاصر بالأسئلة والمطالب، فإنه يبدأ في الشعور بالتوتر والقلق، مما ينعكس على مزاجه وتصرفاته، ويُدخل العلاقة في دوامة من الشكوك وسوء الفهم.

4. النفور العاطفي

مع الوقت، يتحول الحب الزائد إلى عبء نفسي، وقد يدفع الطرف الآخر إلى الانسحاب العاطفي، كرد فعل لا شعوري لمحاولة استعادة توازنه الداخلي. وهذا النفور قد يتطور إلى برود جنسي وعاطفي، ثم إلى انفصال فعلي.

5. التضحية بالذات

الشخص الذي يُحب بإفراط غالبًا ما يضحي باحتياجاته الشخصية، ويذوب في الآخر، إلى أن يفقد هويته الخاصة. وهذا النوع من الحب القائم على التنازل الكامل يُنتج مع الوقت شعورًا بالخذلان والإحباط، حين يكتشف أن الطرف الآخر لا يبادله نفس الدرجة من التضحية.

الفرق بين الحب الناضج والحب المفرط

سبل معالجة الحب الخانق في العلاقة الزوجية

1. الوعي الذاتي

الخطوة الأولى هي أن يدرك الشخص المتشبث أنه يُفرط في الحب على نحو مؤذٍ. هذا الوعي يُعد بداية التغيير، لأنه يُبرز حجم المشكلة ويحفز الفرد على تعديل سلوكه.

2. تطوير الثقة بالنفس

عندما يُدرك الفرد قيمته الذاتية ويشعر بالأمان الداخلي، يقلّ اعتماده العاطفي على الآخر. الثقة بالنفس تُحرر الإنسان من الخوف، وتمنحه القدرة على إقامة علاقة صحية متوازنة.

3. احترام المساحة الشخصية

كل إنسان يحتاج إلى وقت خاص، ومساحة نفسية يمارس فيها هواياته أو يتواصل مع أصدقائه أو يعمل على تطوير ذاته. منح الشريك هذه المساحة هو دليل على احترامه، وليس تهديدًا للحب.

4. بناء علاقات اجتماعية مستقلة

الاعتماد الكامل على الشريك كمصدر وحيد للدعم العاطفي يُعد عبئًا كبيرًا. لذلك، من المهم أن يحتفظ كل طرف بدائرة دعم اجتماعي خارجي تُخفف من الضغط على العلاقة.

5. الاستعانة بالاستشارات الزوجية

في الحالات الشديدة، يُستحسن اللجوء إلى متخصص في العلاقات الأسرية أو العلاج السلوكي المعرفي، لتفكيك الجذور النفسية للحب المفرط، وتقديم أدوات فعالة لتعديل السلوك.

كيف يُعيد الحب الكثير تشكيل صورة الزواج؟

في المجتمعات المعاصرة، تُروّج وسائل الإعلام لفكرة أن الحب يجب أن يكون كل شيء في الحياة، وأن التضحية من أجله لا حدود لها، وأن الزوج أو الزوجة عليهما أن يكرسا حياتهما بالكامل للطرف الآخر. غير أن هذه الصورة الرومانسية غالبًا ما تكون ضارة، لأنها تُنتج توقعات غير واقعية، وتُشوّه مفهوم الحب المتبادل.

إن الزواج السعيد لا يقوم فقط على الحب، بل على الشراكة، الحوار، المساحة، والنمو المشترك. الحب حين يُفهم على أنه تملك، يُفسد العلاقة، حتى وإن كان نابعًا من نية طيبة. أما الحب الناضج، فيُزهر في ظلال الحرية، ويزدهر بالثقة والاحترام.

الخلاصة

الحب الزائد في الحياة الزوجية ليس بالضرورة دليلاً على العاطفة العميقة، بل قد يكون غلافًا ناعمًا لقلق داخلي، أو شعور بانعدام الأمان، أو رغبة في الامتلاك. العلاقات الزوجية السوية لا تحتاج إلى الحب الكثيف بقدر ما تحتاج إلى الحب الذكي، المبني على النضج والاعتدال.

الزواج ليس سجنًا عاطفيًا، بل رحلة شراكة تحتاج إلى أنفاسٍ مفتوحة ومساحاتٍ للتنفس. الحب لا يجب أن يكون قيدًا يلتف حول عنق الشريك، بل جناحًا يحمله نحو الارتقاء.

المراجع

• Fromm, Erich. The Art of Loving. Harper Perennial Modern Classics, 2006.

• Johnson, Susan M. Hold Me Tight: Seven Conversations for a Lifetime of Love. Little, Brown Spark, 2008.