التوتر القاتل الصامت: دراسة جديدة تكشف أن التوتر يقتل أكثر من حوادث السير
في عالمنا الحديث المتسارع، يتربّص بنا عدو خفي لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يحصد الأرواح بصمت أكثر من حوادث السير، التي لطالما شُيطنَت باعتبارها من الأسباب الرئيسية للوفيات. هذا العدو هو “التوتر”. فقد أظهرت دراسة علمية جديدة نُشرت في المجلة الطبية البريطانية The Lancet Public Health أن معدلات الوفيات المرتبطة بالإجهاد النفسي تفوق بكثير تلك الناتجة عن حوادث الطرق، وهو ما يضع الصحة النفسية تحت المجهر بوصفها قضية صحة عامة بامتياز لا تقل خطورة عن الأمراض المزمنة أو الإصابات القاتلة.
مدخل إلى ظاهرة التوتر في القرن الحادي والعشرين
التوتر ليس ظاهرة جديدة على البشرية، فقد عايشه الإنسان منذ فجر التاريخ كردّ فعل فسيولوجي طبيعي تجاه التهديدات. غير أن التوتر الذي كان سابقًا آلية دفاعية قصيرة المدى أصبح اليوم حالة مزمنة مستدامة تتولد من ضغوط العمل، العلاقات الاجتماعية، الأزمات الاقتصادية، وسائل الإعلام، والمطالب المتزايدة للحياة العصرية. هذه البيئة المستمرة من التهديدات الإدراكية تضع الجسم والعقل في حالة استنفار دائم تُعرف بـ”فرط تنشيط الجهاز العصبي الودي”.
كيف يقتل التوتر؟
التوتر المزمن لا يُشعر به فحسب، بل يتسلّل إلى أعماق الجسم ليُحدث سلسلة من التغيرات الفسيولوجية والكيميائية والهرمونية التي تقوّض أجهزة الجسم الحيوية. وتشير الأدبيات العلمية إلى أن التوتر يسهم في رفع ضغط الدم، تسارع نبضات القلب، اختلال مستويات الكورتيزول، اضطراب النوم، تدهور المناعة، وزيادة الالتهاب المزمن، وهو أحد الجذور الخفية للعديد من الأمراض المميتة.
وقد أوضحت الدراسة التي أجريت على مدى عشر سنوات على أكثر من 150,000 شخص في خمس دول صناعية أن الأفراد الذين يعانون من توتر مزمن كانوا أكثر عرضة للوفاة بنسبة 37% مقارنة بأقرانهم الذين يتمتعون بصحة نفسية جيدة. وفي المقابل، بلغت نسبة الوفيات الناتجة عن حوادث السير أقل من 2% من إجمالي وفيات العينة محل الدراسة خلال نفس الفترة، ما يعزز الفرضية القائلة إن التوتر بات من أخطر العوامل القاتلة في مجتمعاتنا المعاصرة.
تأثير التوتر على القلب والجهاز العصبي
يعد القلب أحد أكثر الأعضاء تضررًا من التوتر المستمر. فعند التعرّض للإجهاد، يُفرَز هرمون الأدرينالين الذي يؤدي إلى زيادة مؤقتة في ضغط الدم ومعدل ضربات القلب. وإذا استمرت هذه الحالة دون انقطاع، فإن القلب يواجه صعوبة في الحفاظ على أداءه الوظيفي، مما قد يؤدي إلى النوبات القلبية، السكتات الدماغية، والوفاة المفاجئة.
أما الدماغ، فهو يتفاعل مع التوتر بطرق معقدة تشمل زيادة نشاط اللوزة الدماغية وانخفاض حجم الحُصين، المنطقة المسؤولة عن الذاكرة والتعلم. وقد أظهرت صور الرنين المغناطيسي للأشخاص الذين يعانون من التوتر المزمن وجود تآكل في المناطق الدماغية المسؤولة عن اتخاذ القرار والتحكم الانفعالي، مما يجعلهم أكثر عرضة للقرارات الاندفاعية والانهيارات النفسية.
التوتر كمحفز للأمراض المزمنة
تؤكد الدراسة أيضًا أن التوتر المزمن يُعد عاملاً مساهماً أساسياً في الإصابة بأمراض مثل السكري، السرطان، أمراض الكبد، وأمراض الرئة المزمنة. فالتوتر يعزز أنماط الحياة غير الصحية كالإفراط في الأكل، التدخين، وقلة النشاط البدني، مما يزيد من تراكم الدهون، اختلال نسبة الجلوكوز، وتراجع وظائف الجهاز التنفسي.
كما أظهرت الدراسة أن الأفراد الذين يعيشون في بيئات عالية التوتر أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق، والذين بدورهم يعانون من ضعف التزامهم بالعلاج الطبي للأمراض الجسدية، مما يفاقم من حالة المريض ويقلل من متوسط العمر المتوقع.
الجدول التالي يوضح مقارنة بين أسباب الوفاة الرئيسية وفقًا للدراسة الحديثة:
| السبب الرئيسي للوفاة | نسبة الوفيات من إجمالي العينة | متوسط العمر عند الوفاة | قابلية الوقاية |
|---|---|---|---|
| التوتر المزمن | 37% | 59 عامًا | عالية جدًا |
| حوادث السير | 2% | 44 عامًا | عالية |
| أمراض القلب | 21% | 65 عامًا | متوسطة |
| السرطان | 18% | 61 عامًا | منخفضة إلى متوسطة |
| الانتحار | 4% | 38 عامًا | عالية |
التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية للتوتر
لم تقتصر تداعيات التوتر على الجانب الصحي فقط، بل شملت الاقتصاد والمجتمع بشكل عام. فقد قدّرت منظمة العمل الدولية أن الخسائر الناتجة عن التوتر في مكان العمل – بما في ذلك التغيب، الإنتاجية المنخفضة، ونفقات العلاج – تبلغ حوالي 300 مليار دولار سنويًا على مستوى العالم.
وفي السياقات الاجتماعية، يؤدي التوتر إلى تفكك العلاقات الأسرية، تراجع معدلات الزواج، زيادة نسب الطلاق، تدهور جودة تربية الأطفال، وانتشار أنماط العنف الأسري والمجتمعي. ويعد العامل النفسي غير المتوازن أحد المحركات الخفية للنزاعات الشخصية والانفجارات السلوكية، التي لا تقل خطورة عن العوامل الاقتصادية أو الاجتماعية الظاهرة.
الفئات الأكثر تضررًا من التوتر
أظهرت نتائج الدراسة أن النساء، خاصة الأمهات العاملات، هنّ من بين أكثر الفئات تعرضًا للتوتر المزمن نتيجة الجمع بين المسؤوليات المهنية والعائلية. كما أن الشباب في مقتبل العمر، الذين يواجهون ضغط المستقبل وعدم الاستقرار المهني والمالي، يشكلون شريحة هشة في مواجهة الضغوط النفسية. بالإضافة إلى كبار السن، الذين يعانون من العزلة والخوف من المرض والموت، وهم عرضة لحالات توتر طويلة الأمد تزيد من تدهور صحتهم العامة.
كيف يمكن مواجهة هذا القاتل الصامت؟
توصي الدراسة بإعادة هيكلة السياسات الصحية العامة لتشمل برامج موجهة لمكافحة التوتر والوقاية منه بنفس درجة الجدية التي تُمنح لحملات السلامة المرورية أو مكافحة التدخين. وتضمنت التوصيات ما يلي:
-
دمج برامج الصحة النفسية في أنظمة الرعاية الصحية الأولية: بحيث يتم رصد مؤشرات التوتر والعوامل المرتبطة به مبكرًا.
-
التثقيف المجتمعي: لرفع الوعي بشأن آثار التوتر وتقديم أدوات للمجابهة مثل تمارين التأمل، تقنيات التنفس العميق، والرياضة المنتظمة.
-
تحسين بيئات العمل: من خلال تقليل ساعات العمل، تعزيز التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، وتقديم دعم نفسي داخل المؤسسات.
-
الوقاية المدرسية: بإدخال برامج الذكاء العاطفي والتربية النفسية في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكرة.
نحو مفهوم جديد للأمن الصحي
تكشف هذه الدراسة أهمية الانتقال من مفهوم ضيق للأمن الصحي يعتمد فقط على مكافحة الأمراض المعدية وحوادث الطرق إلى مفهوم شامل يدمج الصحة النفسية بوصفها أحد أركان السلامة المجتمعية. فمع تزايد معدلات الاكتئاب، التوتر، والانتحار في العقود الأخيرة، أصبح من الضروري الاستثمار في رأس المال النفسي للأفراد والمجتمعات، وإعادة النظر في مؤشرات التنمية التي لا تضع الصحة النفسية ضمن أولوياتها.
إن التوتر المزمن ليس مجرد انزعاج عابر، بل هو مرض صامت يؤدي إلى الوفاة في كثير من الأحيان بصور غير مباشرة، متخفياً خلف أمراض القلب، الجلطات الدماغية، والانهيارات النفسية. إن التعرف عليه مبكرًا، واعتباره تحديًا صحّيًا ومجتمعيًا واقتصاديًا، هو الخطوة الأولى في مواجهة هذا القاتل الذي لا يصدر صوتًا.
المراجع:
-
The Lancet Public Health, 2024. “Stress and Mortality: A Ten-Year Multinational Cohort Study.”
-
منظمة الصحة العالمية (WHO)، تقرير الصحة النفسية العالمي، 2023.
