تخريج حديث: “من تواضع لله رفعه”
يعتبر الحديث الشريف “من تواضع لله رفعه” من الأحاديث المأثورة التي حثَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على التواضع، وجعل التواضع من أعظم أسباب رفع الله للعبد في الدنيا والآخرة. ومن خلال هذا الحديث يظهر التوجيه النبوي الكريم الذي يبيّن كيف أن التواضع هو أحد الفضائل الكبرى التي تقرب العبد من الله، وتجعله محبوبًا في قلوب الناس. سنتناول في هذا المقال تخريج الحديث من حيث سنده ومتنّه، مع بيان معناه وآثاره في حياة المسلم.
أولاً: النص الكامل للحديث
النص الكامل للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم:
“من تواضع لله رفعه”.
الحديث مختصر جدًا، لكن معناه واسع جدًا في دلالته على فضل التواضع في الإسلام. هذا الحديث يستحضر واحدة من أبرز الفضائل الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في حياته اليومية.
ثانياً: تخريج الحديث من حيث السند
من الأهمية بمكان أن نتعرف على تخريج الحديث، أي كيفية وصوله إلينا من خلال رجال الحديث الذين رووه. يتعلق هذا الأمر بمراجعة سلسلة السند لرواة الحديث من حيث العدالة والضبط، فكلما كانت السلسلة صحيحة وثابتة، كلما كانت صحة الحديث أرجح.
هذا الحديث الشريف قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين رئيسيين:
-
رواه الإمام مسلم في “صحيحه”:
أورد الإمام مسلم هذا الحديث في صحيحه في باب “التواضع” من كتاب البر والصلة. الرواية هي:“من تواضع لله رفعه”.
هذه الرواية مروية عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وقد صححها علماء الحديث، وأصبحت من الأحاديث التي يعتد بها في بيان فضل التواضع. -
رواه الإمام الترمذي:
أيضًا، أورد الإمام الترمذي الحديث في سننه، وقد وصفه بالحديث الحسن. الترمذي روى هذا الحديث من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وأشار إلى أنه من الأحاديث التي تروج بين الناس وتُستعمل كأداة تربوية في غرس الخلق الفاضل.
سند الحديث:
-
عبد الله بن مسعود أو عبد الله بن عمر من الصحابة الكرام الذين نقلوا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
-
السند يمر عبر التابعين مثل مالك بن أنس ومحمّد بن إسماعيل البخاري في مصادر مختلفة، وقد حفظ الحديث علماء الحديث جيدًا وقاموا بتوثيقه في كتبهم.
ثالثاً: شرح الحديث ومعناه
الحديث “من تواضع لله رفعه” يبين فضل التواضع وأثره العظيم على حياة المسلم. التواضع في الإسلام ليس مجرد خلق أخلاقي، بل هو عبادة لله عز وجل، وطريق إلى رفع الدرجات.
1. التواضع لله:
التواضع لله هو أن يقدّم الإنسان نفسه لله عز وجل في أي من مجالات الحياة دون تعالي أو تفاخر. التواضع لا يعني أن يكون الشخص ذليلًا أو مُهانًا، بل يعني أن يضع نفسه في مكانه الصحيح دون أن يتفاخر على الناس أو يتكبر عليهم، بل أن يكون متواضعًا في تعاملاته وأفعاله وأقواله.
في القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات التي تحث على التواضع وتبين أجره، مثل قوله تعالى:
“وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ الْأَرْضِ هَوْنًا” [الفرقان: 63].
هذه الآية تبيّن أن التواضع هو جزء من العبادة لله، وهو خلق يحبه الله عز وجل.
2. رفع الله للعبد:
رفع الله للعبد هو وعد من الله تعالى بأن الشخص المتواضع في الدنيا سيكون له رفعة في الدنيا والآخرة. رفع الله له في الدنيا يكون بتقدير الناس له، ورفعته في الآخرة يكون بالقرب من الله عز وجل، ورفعة في الجنة. جاء في الحديث النبوي الشريف:
“من تواضع لله رفعه”، أي أن من تواضع في ظاهره لله، فإن الله يرفعه في نفسه وفي قلبه، ويجعل له منزلة عالية.
3. التواضع ليس ذلاً:
بعض الناس قد يعتقدون أن التواضع هو الخضوع والذل، إلا أن الإسلام قد ميز بين التواضع الصحيح والذل المذموم. التواضع ليس التنازل عن حقوق الشخص، أو تضييع مكانته أو كرامته، بل هو إدراك حقيقي لمكانة العبد أمام ربه وأمام خلقه.
رابعاً: التفسير البلاغي والتربوي للحديث
يحتوي هذا الحديث على بلاغة نبوية عظيمة في اختيار الكلمات البسيطة التي تؤثر في النفوس وتزرع فيها فضائل عظيمة. العبارة “من تواضع لله رفعه” تتسم بالاختصار ولكنها تحتوي على معانٍ عميقة.
-
الرفع: تعني علو المنزلة، سواء في الدنيا أو الآخرة.
-
التواضع لله: يعني أن الإنسان لا يتفاخر بما لديه من علم أو مال أو منصب، بل يعترف بأن كل شيء من عند الله.
هذا التوجيه النبوي هو توجيه تربوي بليغ، حيث يترتب عليه تحفيز المسلم للعمل على تحسين أخلاقه والابتعاد عن الغرور والكبر.
خامساً: آثار التواضع في حياة المسلم
-
تحقيق الألفة والمحبة: المسلم المتواضع يكسب حب الناس واحترامهم، لأنه لا يتعالى عليهم. هذا يعزز الروابط الاجتماعية ويزيد من الألفة بين الأفراد.
-
الاستقرار النفسي: التواضع يريح النفس ويجنبها التوتر الناتج عن التكلف والتفاخر.
-
الرضا عن الذات: التواضع يساعد المسلم على أن يكون راضيًا عن نفسه بما لديه، بعيدًا عن الطمع أو الحسد.
-
رفع درجة المسلم في الدنيا والآخرة: كما ورد في الحديث، أن من تواضع لله رفعه، وهذه رفعة لا تقتصر على الدنيا فحسب، بل تشمل أيضًا الآخرة.
سادساً: علاقة الحديث بالواقع المعاصر
في العصر الحديث، أصبح التفاخر والتعالي جزءًا من الحياة اليومية للكثيرين، سواء في مجال العمل أو في الأوساط الاجتماعية. ومع تزايد الابتعاد عن القيم الأخلاقية التي حث عليها الإسلام، يظهر هذا الحديث كدعوة هامة للرجوع إلى التواضع كخلق أساسي في التعامل مع الآخرين.
لقد أصبحت مظاهر التفاخر والغرور في العصر المعاصر في العديد من المجالات، مثل السياسة والأعمال، حيث نجد بعض الشخصيات تتفاخر بمناصبها ومكانتها في المجتمع. وفي هذا السياق، يصبح التواضع قيمة مفقودة تحتاج إلى إعادة إحياء في قلوب المسلمين.
سابعاً: التواضع في سير الصحابة والتابعين
إن حياة الصحابة رضي الله عنهم كانت نموذجًا حيًّا للتواضع في كافة مجالات الحياة. على سبيل المثال، كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه معروفًا بتواضعه العظيم، رغم أنه كان أمير المؤمنين. وكان يُخاطب الناس بكل تواضع ويحثهم على أن لا يتفاخروا أو يتعالى بعضهم على البعض.
وقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان من أعظم من تحلى بهذا الخلق، فكان ينزل عن دابته إذا رآى أحدًا يريد الركوب، ويجلس على الأرض متواضعًا رغم مكانته في المجتمع.
خاتمة
حديث “من تواضع لله رفعه” يعتبر من الأحاديث التي تلخص في كلمات بسيطة مفهومًا عميقًا يتعلق بعلاقة الإنسان بربه وبالناس من حوله. هو دعوة عظيمة للابتعاد عن التفاخر والكبر، والتركيز على الخلق النبيل الذي يحب الله تعالى. من خلال هذا الحديث، يستطيع المسلم أن يتعلم كيف يكون متواضعًا في تصرفاته، ويرتقي بقدره ومقامه عند الله وفي نفوس الناس.
