التنويم المغناطيسي بين الحقيقة والخيال

مقدمة

يُعتبر التنويم المغناطيسي أحد أكثر الظواهر النفسية إثارة للجدل، حيث يمتزج فيه العلم بالموروث الشعبي، والطب النفسي بالعروض المسرحية، وبين هذين النقيضين يظل التنويم المغناطيسي موضوعاً يشوبه الغموض وسوء الفهم. لقد ارتبط هذا المفهوم منذ قرون طويلة بأفكار خيالية ومبالغات درامية، بدءًا من قدرات خارقة للسيطرة على الآخرين، وصولاً إلى استخدامه كوسيلة للولوج إلى العقول الباطنية، لكن بين هذه التصورات، أين تبدأ الحقيقة وأين ينتهي الخيال؟

يمتد تاريخ التنويم المغناطيسي إلى قرون مضت، حيث استُخدم في سياقات علاجية وروحية متعددة، تطورت عبر العصور إلى أن وصلت إلى ما يُعرف اليوم في الطب النفسي والعلاجات السلوكية باسم “العلاج بالتنويم الإيحائي”. ومن أجل فهم هذا المفهوم على حقيقته، لا بد من الغوص في مكوناته النفسية والعصبية، وأدواته العلمية، وتطبيقاته الواقعية، مع تفكيك الخرافات التي تحيط به.

ما هو التنويم المغناطيسي علميًا؟

التنويم المغناطيسي هو حالة من الوعي المُعدَّل، يتم فيها تركيز الانتباه وتقليل الاستجابة للمحفزات الخارجية، ويصبح الفرد أكثر تقبلاً للاقتراحات أو الإيحاءات التي يقدمها الممارس. تُعرف هذه الحالة في علم النفس باسم “حالة الوعي المركّز” (Focused Awareness)، وهي ليست نوماً كما يُشاع، بل حالة بين اليقظة والنوم، يكون فيها الشخص مستيقظاً وواعياً ولكنه شديد التركيز ومنفتح ذهنياً.

تحدث هذه الحالة عندما يتم تجاوز ما يُسمى “الناقد الداخلي”، وهو الجزء من العقل المسؤول عن الفحص العقلاني للأفكار والمعلومات. وعند تجاوز هذا الحاجز، تصبح الإيحاءات أكثر تأثيراً، ويمكن أن تؤدي إلى تغييرات سلوكية أو نفسية لدى الشخص.

الخلفية التاريخية للتنويم المغناطيسي

تعود جذور التنويم المغناطيسي إلى العصور القديمة، حيث استُخدمت تقنيات مماثلة في الحضارات المصرية والهندية والصينية ضمن الطقوس الدينية أو العلاجية. لكن الشكل الأقرب لما نعرفه اليوم بدأ مع الطبيب النمساوي فرانز أنطون ميسمر في القرن الثامن عشر، والذي طوّر ما أسماه بـ”المغناطيسية الحيوانية”، وهي النظرية التي افترضت وجود طاقة خفية تمر عبر الأجسام وتؤثر على صحتها النفسية والجسدية.

لاحقًا، أُعيد النظر في مفاهيم ميسمر من قبل علماء مثل جيمس برايد، الذي صاغ مصطلح “التنويم المغناطيسي” (Hypnosis) في القرن التاسع عشر، مُعتبراً أن الحالة ليست ناتجة عن قوى خارقة، بل عن عملية نفسية يمكن تفسيرها علميًا. ومنذ ذلك الحين، تطورت الأساليب وتوسعت الاستخدامات، إلى أن أصبحت جزءاً من العلاج النفسي المعترف به في العديد من الأنظمة الطبية.

آلية عمل التنويم المغناطيسي

علمياً، يمكن تفسير التنويم المغناطيسي عبر التغيرات التي تطرأ على النشاط الكهربائي في الدماغ، وخاصة في المناطق المرتبطة بالانتباه والإدراك الحسي. وتُظهر الدراسات العصبية باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (fMRI) والتخطيط الكهربائي للدماغ (EEG) أن نشاط الدماغ يتغير عند دخول الشخص في حالة التنويم، حيث تنخفض ترددات موجات الدماغ من بيتا (النشاط العادي في اليقظة) إلى ألفا وثيتا، وهما ترددان يُرتبطان بحالات الاسترخاء العميق والتأمل.

كما أن بعض الدراسات تُظهر تراجع نشاط القشرة الجبهية المسؤولة عن النقد والتقييم المنطقي، مما يجعل الشخص أكثر تقبلاً للإيحاءات. وهذه التغيرات العصبية تؤكد أن التنويم المغناطيسي هو حالة ذهنية خاصة لها مؤشرات فيسيولوجية قابلة للقياس، وليست مجرّد وهم نفسي أو تأثير مسرحي.

التنويم الإيحائي في الطب النفسي والعلاج السلوكي

يُستخدم التنويم المغناطيسي في مجالات عديدة من الطب النفسي والعلاجات السلوكية، ويُعرف بـ”العلاج بالتنويم الإيحائي” (Hypnotherapy). يُستعان به في حالات مثل:

• علاج القلق والتوتر

• إدارة الألم المزمن

• علاج الإدمان (مثل التدخين أو تعاطي المواد)

• مكافحة الفوبيا بأنواعها

• تعزيز الثقة بالنفس

• علاج اضطرابات الأكل

• تحسين التركيز والتحصيل الدراسي

وتعتمد فعالية العلاج بالتنويم الإيحائي على عوامل متعددة، مثل مدى قابلية الشخص للإيحاء (وهي تختلف من فرد لآخر)، ومدى خبرة المعالج، وطبيعة الحالة النفسية المستهدفة.

الخرافات الشائعة حول التنويم المغناطيسي

1. التنويم المغناطيسي هو فقدان للوعي

هذه من أكثر الخرافات انتشاراً. في الحقيقة، الشخص المُنَوَّم يظل واعياً لما يجري من حوله، ويمكنه الخروج من الحالة متى ما أراد. إن حالة التنويم تشبه التركيز العميق أو الدخول في تأمل عميق، وليست غيبوبة كما تُصوَّر في بعض الأفلام.

2. يمكن للمنوِّم السيطرة على عقول الآخرين

لا يمكن لأي شخص أن يُجبر شخصاً آخر على فعل شيء يتعارض مع قيمه أو أخلاقه أثناء التنويم. ما يحدث هو زيادة تقبّل الإيحاءات، وليس فقدان السيطرة أو الإرادة.

3. التنويم المغناطيسي يعيد الذكريات بدقة تامة

رغم استخدام التنويم أحيانًا لاسترجاع الذكريات، فإن ما يتذكره الشخص قد يتأثر بالإيحاء أو التوقعات، مما يجعله عُرضة للتحريف أو الخيال المُضاف. لذلك لا يُعتمد عليه كأداة موثوقة في التحقيقات الجنائية.

4. لا يمكن الاستيقاظ من التنويم

في الواقع، لا توجد حالات موثقة عن أشخاص ظلوا في حالة تنويم مغناطيسي دون العودة. بمجرد انتهاء الجلسة، أو إذا شعر الشخص بعدم الراحة، يمكنه الخروج من الحالة فوراً.

قابلية الأفراد للتنويم

تختلف قابلية الأشخاص للتنويم الإيحائي بشكل كبير، وتُظهر الدراسات أن حوالي 10% من الناس يتمتعون بقابلية عالية، بينما يكون 10% آخرون مقاومين تمامًا، أما النسبة المتبقية فتقع بين هذين الحدين.

العوامل المؤثرة في القابلية تشمل:

• مدى القدرة على التركيز

• الانفتاح الذهني

• الاستعداد النفسي لتقبل الإيحاء

• الثقة في المعالج

• غياب التوتر أو الخوف أثناء الجلسة

وقد وُضعت مقاييس لتحديد القابلية مثل مقياس “ستانفورد للتنويم”، الذي يستخدم اختبارات عملية لقياس استجابة الفرد للإيحاءات.

التطبيقات غير الطبية

بعيدًا عن الطب، استخدم التنويم المغناطيسي في مجالات أخرى مثل:

• تحسين الأداء الرياضي

• مساعدة الطلبة في تحسين التركيز والحفظ

• تعزيز مهارات الخطابة والثقة بالنفس

• استخدامه في الإبداع الفني

كما يُستخدم في العروض المسرحية والترفيهية، لكن هذه العروض تختلف كلياً عن التنويم الإيحائي العلاجي، حيث يعتمد النجاح في المسرح على اختيار أشخاص لديهم قابلية عالية ورغبة في التفاعل مع الجمهور، مما يؤدي إلى مواقف تبدو غير قابلة للتصديق لكنها لا تعكس الواقع العلمي للتنويم.

جدول مقارنة بين التنويم المغناطيسي الحقيقي والتنويم المسرحي

موقف الطب الحديث من التنويم المغناطيسي

يعترف الطب الحديث بالتنويم المغناطيسي كأداة علاجية مساعدة، ويُستخدم ضمن برامج العلاج السلوكي المعرفي (CBT) في بعض الحالات. وقد أقرت منظمات صحية مرموقة مثل الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) والجمعية البريطانية لعلم النفس (BPS) باستخدام التنويم الإيحائي ضمن معايير محددة، مع ضرورة إشراف مختص مؤهل.

وتشير مراجعات بحثية متعددة إلى أن التنويم يمكن أن يكون فعالاً في تقليل الألم، والتوتر، وبعض أنواع الرهاب، لكن نتائجه ليست سحرية أو فورية، ولا يصلح لجميع الأشخاص أو الحالات.

استخدام التنويم في العلاج بالألم والإدمان

في حالات الألم المزمن، خاصة في أمراض مثل السرطان أو التهاب المفاصل، يساعد التنويم المغناطيسي في تقليل إدراك الألم من خلال إعادة توجيه الانتباه ورفع العتبة الحسية. كما يُستخدم في بعض مراكز علاج الإدمان للمساعدة في كسر الارتباطات السلوكية بالإدمان، وتقديم إيحاءات بديلة ترتبط بالتحفيز الداخلي والتعافي.

الخاتمة

التنويم المغناطيسي هو أداة علمية معقّدة، لها أسسها النفسية والعصبية، ويمكن أن تكون فعالة في سياقات علاجية متعددة إذا ما استُخدمت بشكل علمي وأخلاقي. وفي المقابل، فإن الكثير من المفاهيم المغلوطة حوله ناتجة عن تأثير الثقافة الشعبية والإعلام، التي تبالغ في قدراته أو تحرّف طبيعته. بين الحقيقة والخيال، يظل التنويم المغناطيسي مجالاً يستحق الدراسة والفهم بعيداً عن التهويل، ليبقى وسيلة علاجية محتملة لا قوة سحرية خارقة.

المراجع

1. Lynn, Steven J., Rhue, Judith W., & Kirsch, Irving. Handbook of Clinical Hypnosis. American Psychological Association, 1993.

2. Oakley, David A., & Halligan, Peter W. “Hypnotic suggestion: Opportunities for cognitive neuroscience.” Nature Reviews Neuroscience, 2009.