كيف تتغلّب على مخاوفك عندما تفكر في البدء بعمل جديد

الانتقال إلى عمل جديد يمكن أن يكون واحداً من أكثر التغيرات إثارة وتحفيزاً في حياة الإنسان المهنية، إلا أنه في الوقت ذاته يُعد أحد أكثر المواقف التي تستدعي القلق والخوف. الخروج من دائرة الراحة، ومواجهة المجهول، والتخلي عن الاستقرار، جميعها عناصر كفيلة بإثارة سلسلة من المخاوف النفسية التي قد تشكل عائقاً أمام اتخاذ القرار أو الاستمرار فيه بثقة. فهم هذه المخاوف والتعامل معها بوعي يعد خطوة أساسية نحو تحقيق انتقال مهني ناجح وبناء حياة عملية أكثر اتزاناً.

جذور الخوف من البدء بعمل جديد

تعود مشاعر الخوف التي تصاحب فكرة الانتقال إلى عمل جديد إلى عوامل نفسية وسلوكية متراكمة، بعضها مرتبط بالتجارب السابقة، والبعض الآخر ناتج عن التوقعات الاجتماعية والضغوط الذاتية. من بين أبرز هذه العوامل:

• الخوف من الفشل: يخشى كثيرون من عدم التمكن من إثبات الكفاءة في البيئة الجديدة، أو عدم الوفاء بتوقعات المديرين والزملاء.

• فقدان السيطرة: الانتقال إلى مكان جديد يعني التعرض لأنظمة إدارية مختلفة، وأساليب عمل غير مألوفة، وبيئة اجتماعية جديدة.

• عدم اليقين المالي: القلق من احتمال عدم الاستقرار المالي، أو فقدان المزايا السابقة، قد يشكل دافعاً قوياً لتأجيل اتخاذ قرار الانتقال.

• الخوف من تقييم الذات: عندما يشرع الشخص في خطوة مهنية جديدة، فإنه يضع نفسه تحت المجهر، ما قد يدفعه إلى مقارنة نفسه بالآخرين، أو تقييم نفسه بشكل قاسٍ.

الآثار النفسية للخوف غير المُدار

عندما لا يُدار الخوف بشكل سليم، يتحول من محفز نحو الحذر الإيجابي إلى عائق نفسي حقيقي يؤدي إلى:

• فقدان الثقة بالنفس.

• التأجيل المستمر للقرارات المهمة.

• الدخول في دائرة الشك والقلق المستمر.

• تثبيط الطموح وتحجيم الأهداف.

• ظهور أعراض جسدية مثل الأرق، واضطرابات الهضم، وزيادة معدل ضربات القلب.

من هنا، تصبح القدرة على مواجهة هذه المخاوف ضرورة ملحة، لا ترفاً نفسياً، لضمان الانتقال المهني السليم والمستدام.

خطوات علمية وعملية للتغلّب على المخاوف

1. فهم طبيعة الخوف وتفكيكه

الخطوة الأولى نحو التغلب على الخوف تكمن في تسميته بدقة. يجب على الشخص أن يحدد ماهية مخاوفه على وجه التحديد: هل يخاف من عدم تقبّله في الفريق الجديد؟ هل يقلق من عدم القدرة على التأقلم مع الأدوات التقنية الجديدة؟ بتفكيك الخوف إلى عناصره الصغيرة، يصبح من الممكن التعامل مع كل مكوّن على حدة.

2. تحليل الفوائد مقابل المخاطر

ينبغي إعداد قائمة دقيقة تتضمن الفوائد المرجوة من الانتقال إلى العمل الجديد مقابل المخاطر المحتملة. هذا التحليل الموضوعي يساعد في تقليل أثر المخاوف، خاصة عندما تتفوق الإيجابيات على السلبيات. كما يمكن تصنيف هذه الفوائد إلى قصيرة المدى (مثل زيادة الراتب) وطويلة المدى (مثل تطوير المهارات أو التقدم الوظيفي).

3. استرجاع النجاحات السابقة

تذكير النفس بالنجاحات المهنية السابقة يعيد برمجة الدماغ ليركّز على الكفاءة والقدرة بدلًا من الفشل والقصور. من المهم استرجاع الأوقات التي واجه فيها الشخص مواقف مماثلة وخرج منها بنجاح. هذا يعزز الإحساس بالثقة، ويغذي الإيمان بالقدرة على التكيّف والنمو.

4. اعتماد خطة انتقال واضحة

كلما كانت خطة الانتقال إلى العمل الجديد واضحة ومحددة، قلّ مستوى القلق المصاحب لها. تشمل الخطة:

• معرفة المسؤوليات الجديدة بدقة.

• التعرف على ثقافة الشركة أو المؤسسة الجديدة.

• وضع خطة للتعلم السريع للمهارات المطلوبة.

• التواصل مع الموظفين الحاليين إن أمكن، لتكوين صورة أوضح عن البيئة الجديدة.

5. ممارسة تقنيات إدارة القلق

هناك عدة استراتيجيات نفسية وسلوكية تساعد على ضبط القلق والخوف:

• التنفس العميق وتمارين التأمل الذهني.

• اليقظة الذهنية (Mindfulness) التي تدرّب العقل على الحضور في اللحظة الراهنة وتجنّب اجترار المخاوف المستقبلية.

• الكتابة التعبيرية التي تُستخدم للتفريغ النفسي وتوضيح الأفكار الداخلية.

• النشاط البدني المنتظم، حيث تشير الدراسات إلى أن التمارين تساعد في تخفيف القلق وتحسين المزاج.

6. طلب الدعم من الآخرين

الحديث مع شخص موثوق مثل صديق مقرب، مرشد مهني، أو حتى معالج نفسي يمكن أن يُحدث فرقاً جوهرياً. الحديث ليس فقط وسيلة للتفريغ، بل أداة للحصول على وجهات نظر جديدة وموضوعية من الخارج.

7. إعادة تعريف مفهوم الفشل

ينبغي تغيير التصور السلبي حول الفشل، من كونه نهاية الطريق إلى كونه جزءاً من عملية التعلم والنمو. التجارب التي لا تنجح كما هو مخطط لها غالباً ما تفتح أبواباً جديدة، وتكسب الشخص خبرات لم يكن ليحصل عليها لولا خوض التجربة.

8. إدارة التوقعات الواقعية

التغيير المهني يتطلب وقتاً للتكيف، لذلك من الضروري أن تكون التوقعات واقعية. لن يكون الأسبوع الأول مثالياً بالضرورة، وربما تتطلب بعض المهام جهداً إضافياً في البداية. الفهم الواقعي لما ينتظر يقلل من حجم الإحباط، ويتيح المجال للنمو التدريجي.

مقارنة بين المخاوف الشائعة والحقائق الواقعية

التدرّج في التغيير لتقليل حدّة المخاوف

إذا كانت المخاوف شديدة لدرجة تعرقل اتخاذ القرار، يمكن التفكير في تطبيق استراتيجيات التغيير التدريجي مثل:

• البدء بدوام جزئي إن أمكن.

• تجربة العمل الجديد كمستشار لفترة تجريبية.

• البدء في التعرف على أدوات وتقنيات العمل الجديد قبل الانتقال.

• حضور ورشات أو تدريبات مسبقة تتعلق بطبيعة العمل الجديد.

أهمية الإعداد العقلي الطويل الأمد

التحضير العقلي لا يقتصر فقط على فترة ما قبل الانتقال، بل هو عملية مستمرة تمتد إلى الشهور الأولى بعد بدء العمل الجديد. من المهم أن يدرك الشخص أن القلق قد يعود في لحظات معينة، خصوصاً عند مواجهة تحديات أو انتقادات، لكنه يصبح أقل تأثيراً مع الوقت واكتساب الخبرة.

دور القيم الشخصية في تقوية القرار

كلما كان العمل الجديد متماشياً مع القيم الشخصية للفرد، أصبح التغلب على الخوف أسهل. القيم مثل الإبداع، الاستقلالية، التأثير المجتمعي، أو التقدير المالي، عندما تكون جزءاً من بيئة العمل الجديدة، فإنها تعزز من الرضا الذاتي وتخفف من التوتر المصاحب للانتقال.

البعد الزمني: تأمل الصورة الكبرى

عند النظر إلى المخاوف من منظور لحظي، تبدو ضخمة ومرهقة. لكن تأمل الوضع من زاوية زمنية أطول يساعد في تهدئة العقل. أين سيكون موقعك المهني بعد خمس سنوات إذا لم تقم بهذه الخطوة؟ ما مقدار النمو الذي يمكن أن تحققه لو تخطيت هذا الحاجز؟ هذه الرؤية الطويلة تساعد في اتخاذ قرارات جريئة ومتزنة.

الخاتمة

البدء بعمل جديد ليس بالأمر السهل، والخوف المصاحب له ليس دليلاً على الضعف، بل علامة على أن الخطوة القادمة ذات قيمة. حين يُواجه الخوف بإدراك عميق، واستراتيجيات مدروسة، يصبح أداة للتطور لا عائقاً له. التحول المهني يمكن أن يكون فرصة لإعادة اكتشاف الذات، وتجديد الطموح، والانطلاق نحو آفاق مهنية أكثر إشراقاً واستقراراً.

المراجع:

1. American Psychological Association. (2020). Managing Transitions and Career Change Anxiety.

2. Harvard Business Review. (2022). How to Manage Fear When Starting a New Job.