التعدد في فكر علي الطنطاوي

التعدد والشيخ علي الطنطاوي: نظرة فكرية فقهية في ضوء التراث الإسلامي

يُعد الشيخ علي الطنطاوي من أبرز العلماء والمفكرين في العصر الحديث، ممن سعوا إلى تقديم الفقه الإسلامي بلغة العصر، ومن زاوية إنسانية وروحية تتجاوز مجرد الجدل التقليدي أو التفسيرات الحرفية للنصوص. لم يكن الطنطاوي فقيهاً فحسب، بل أديبًا ومربّياً ومصلحاً اجتماعياً، وقد كان له رأي مميز وموقف واضح من موضوع التعدد في الزواج، مستندًا إلى ما في الشريعة من رحمة، وإلى ما في التجربة الإنسانية من عبرٍ ودروسٍ يجب أن تُراعى في الفقه العملي المعاش. يُعد موضوع التعدد أحد أكثر المسائل الفقهية التي أثارت ولا تزال تثير جدلاً في المجتمعات الإسلامية، ويتفاوت حولها الفهم ما بين مؤيد يرى فيه رخصة شرعية مشروطة، ومعارض يعتبره مسارًا خاطئًا لكثير من حالات الظلم الأسري والاجتماعي.

في هذا المقال، سيتم تناول موضوع التعدد من زاوية رؤية الشيخ علي الطنطاوي، بالاعتماد على مؤلفاته ومقالاته وخطبه، وتحليل السياقات الاجتماعية والفكرية التي عبّر فيها عن مواقفه. كما سيتم التطرق إلى البنية الشرعية لمسألة التعدد، والكيفية التي عالج بها الطنطاوي هذه المسألة التي تقف على تقاطع بين الشريعة والحياة اليومية، وبين النص والواقع، وبين المقاصد والمظاهر.

التعدد في الشريعة الإسلامية: الأساس القرآني والقيود الشرعية

عند الحديث عن التعدد، فإن المرجع الأول هو قول الله تعالى:

“فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة”

(سورة النساء، الآية 3)

وقد تم اعتبار هذه الآية أساسًا شرعيًا لإباحة التعدد، ولكن بشرط العدالة. غير أن مسألة العدالة ذاتها كانت موضوع تأملات عميقة عند الشيخ علي الطنطاوي، الذي لم يرَ التعدد بوصفه بابًا مفتوحًا بلا قيد، بل بوصفه نظامًا دقيقًا يستلزم من الرجل وعيًا، وقدرة، ومسؤولية.

الشيخ الطنطاوي كان واضحًا في رفضه لفكرة أن تكون الآية إذنًا مطلقًا للرجل بتعدد الزوجات لمجرد رغبته، أو ذريعة لهوى أو نزوة. العدالة المطلوبة ليست في النفقة فقط، بل في العدل المعنوي والنفسي، وهو ما أشار إليه قوله تعالى:

“ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”

(سورة النساء، الآية 129)

من هنا، يرى الطنطاوي أن التعدد وإن كان مباحًا شرعًا، فهو ليس من قبيل التشريع التأسيسي العام، بل هو تشريع استثنائي لمعالجة ظروف محددة، كعدم قدرة المرأة على الإنجاب، أو وجود مرض، أو حالات حربية أدّت إلى زيادة عدد النساء، كما في أعقاب الحروب.

الشيخ علي الطنطاوي: الخلفية الفكرية والاجتماعية

ولد الشيخ علي الطنطاوي في دمشق عام 1909، ونشأ في بيئة علمية محافظة، وكان من علماء الشام الكبار، جمع بين الفقه والأدب والإعلام، وعُرف بأسلوبه السهل الممتنع، وقدرته على التبسيط دون تفريط، وعلى الصدع بالحق في وقت كانت فيه الأصوات المعتدلة تُقصى.

الطنطاوي لم يكن فقيهًا تقليديًا، بل صاحب مدرسة فكرية تستند إلى فقه الواقع وفقه الموازنات، وكان يدعو إلى مراعاة مقاصد الشريعة لا الوقوف عند ظاهر النصوص فقط. هذا التوجه الفكري ينعكس بوضوح على موقفه من موضوع التعدد، إذ كان دائم التحذير من تحويل الرخص الشرعية إلى أعراف اجتماعية جامدة تظلم المرأة وتُخلّ باستقرار الأسرة.

موقف الشيخ علي الطنطاوي من التعدد: مزيج من الفقه والواقعية

في عدد من مقالاته وأحاديثه الإذاعية والتلفزيونية، تحدث الطنطاوي عن التعدد بصراحة، محذرًا من إساءة فهمه أو استغلاله. كان يرى أن كثيرًا من الرجال يتخذونه ذريعة لتعدد العلاقات، أو للهروب من مشكلاتهم الزوجية بدلاً من معالجتها بالحوار أو الصبر.

من أبرز ما ورد في كتاباته قوله:

“إن الإسلام لم يأتِ بالتعدد، بل جاء ليقيّده. كان التعدد في الجاهلية غير محدود، فجاء الإسلام فحدده بأربع، وقيّده بالعدل، فمن لم يعدل فواحدة. ولو علمتم كم من البيوت تهدمت بسبب التعدد الذي لم يراعِ فيه الرجل شروطه، لعرفتم أنه ليس من السُّنة، بل هو من الرخص التي يجب أن تُقيد لا أن تُفتح على مصراعيها.”

كما عبّر في مواضع عدة عن خشيته من أن يُستخدم التعدد لإذلال الزوجة الأولى أو احتقارها، فيتحول من رخصة علاجية إلى وسيلة للعبث والانحلال، مشيرًا إلى أن كثيرًا من المتزوجين بأكثر من واحدة لا يستطيعون تحقيق العدل النفسي والعاطفي، مما يجعلهم مخالفين لروح الشريعة وإن كانوا يظنون أنهم ملتزمون بظاهرها.

التعدد في الواقع المعاصر: تحذيرات الطنطاوي من النتائج السلبية

كان الطنطاوي يرى أن التعدد، كما يمارس في كثير من المجتمعات الإسلامية، تحوّل إلى آلية لإنتاج الشقاق الأسري بدلاً من الحلول الشرعية. ويرى أن هناك بونًا شاسعًا بين الفقه المجرد والممارسة الواقعية، وأن التعدد لا يناسب كل أحد، بل هو ظرف خاص يقتضي شروطًا خاصة.

واحدة من النقاط الجوهرية التي أشار إليها، هي أن الرجل الذي لا يستطيع إدارة بيت واحد بإحسان، لن يستطيع إدارة بيتين أو أكثر بعدل. ولذا دعا الطنطاوي إلى أن يكون هناك وعي جماعي، وفقه اجتماعي، يوازي النصوص الفقهية، ويعيد التوازن بين الحق والواجب.

التعدد ومسؤولية الدولة والمجتمع

لم يكن الطنطاوي ليقف عند حدود الفرد فحسب، بل نادى بمسؤولية الدولة والمجتمع تجاه ضبط هذه المسألة. فرأى أنه لا يجوز أن يُفتح الباب على مصراعيه دون دراسة ظروف الزوج المادية والنفسية، وقدرته على العدل بين زوجاته وأبنائه. وأي تقنين أو تشريع لا بد أن يوازن بين الحرية الفردية والمصلحة العامة، مستشهدًا بقاعدة فقهية شهيرة: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”.

وقد أشار إلى أن كثيرًا من الدول الإسلامية، بما فيها سوريا التي عاش فيها، بدأت تقنن التعدد وتربطه بموافقة القاضي أو إثبات الضرورة، وهو أمر أيده الشيخ بشرط ألا يتحول إلى تعطيل لحكم شرعي، بل أن يكون ضمانة للعدالة الاجتماعية.

المرأة والتعدد: مقاربة إنسانية في فكر الطنطاوي

أكثر ما يميز موقف الشيخ الطنطاوي من التعدد، هو انحيازه الأخلاقي والإنساني للمرأة، دون أن يخرج عن الإطار الشرعي. فقد رأى أن كثيرًا من النساء يذقن المرارة من تجربة التعدد، لأن الرجل لا يُعدّ نفسه له، ولا يراعي حساسية المرأة وكرامتها، ولا يُنصفها بعد الزواج الثاني.

دعا الشيخ إلى أن تكون العلاقة بين الرجل وزوجته مبنية على الرحمة والمودة والاحترام، لا على الاستعلاء أو التسلط. بل وكتب صراحة: “إن من الرجال من لا يستحق أن يُعطى هذه الرخصة، لأنه لا يعرف كيف يرفق بزوجته الأولى، فكيف سينصف الثانية؟”.

التعدد بين النص والمقصد: درس الطنطاوي في فقه الموازنات

واحدة من الإسهامات الفكرية العميقة للشيخ الطنطاوي، هي توظيفه لفكرة “فقه الموازنات” في معالجة القضايا الشرعية، ومنها التعدد. وهو الفقه الذي يُعنى بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين الواقع والمثال.

في ضوء هذا الفقه، يرى الطنطاوي أن التعدد قد يكون حلاً في حالات خاصة، ولكنه يتحول إلى مفسدة عندما يُمارس بغير شروطه. وكان يشبه التعدد بالدواء، الذي يُصرف بوصفة طبية عند الحاجة، لا يؤخذ عشوائيًا دون تشخيص.

الجدول: مقارنة بين شروط التعدد الشرعي ورؤية الطنطاوي للتعدد المسؤول

الخاتمة

إن موقف الشيخ علي الطنطاوي من التعدد يُعد نموذجًا للفقيه الواعي الذي يربط بين النص والمقصد، وبين الشرع والواقع، ويزن الأمور بميزان العدل لا الهوى. لم يكن الطنطاوي ضد التعدد كمبدأ، بل ضد سوء استخدامه، وضد تحويل الرخصة إلى قاعدة، والخصوص إلى عموم. لقد ترك لنا فقهًا راشدًا يتطلب أن يُقرأ ويُدرس ويُفهم في ضوء التحديات التي تعيشها الأسرة المسلمة المعاصرة.

المراجع:

1. علي الطنطاوي، ذكريات علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة.

2. علي الطنطاوي، فتاوى علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة.