التصوير الفني في القرآن

التصوير الفني في القرآن – دراسة تحليلية في الجمال التعبيري والتشكيل البلاغي

يُعدُّ كتاب “التصوير الفني في القرآن” للأديب والمفكر سيد قطب من أبرز الأعمال الأدبية والنقدية التي تناولت النص القرآني بمنهج فني، يتجاوز القراءة التقليدية التفسيرية إلى قراءة جمالية بلاغية تعتمد على استحضار القيمة التصويرية والتعبيرية للكلمة القرآنية، وتُسلّط الضوء على الإبداع اللغوي في القرآن بوصفه نصًا إلهيًا معجزًا في بنائه الفني والبلاغي قبل أي شيء آخر. هذا الكتاب الذي نُشر لأول مرة عام 1945م، كان بمثابة انعطافة حاسمة في قراءة النص القرآني عند سيد قطب، وفتح الباب أمام اتجاه جديد في الدراسات القرآنية المعاصرة.

الإطار العام للكتاب

ينقسم الكتاب إلى قسمين رئيسيين:

1. القسم النظري: وهو جزء تأصيلي يشرح فيه المؤلف رؤيته للقرآن بوصفه بناءً فنيًا.

2. القسم التطبيقي: ويُفصِّل فيه الأمثلة القرآنية التي تجسِّد جماليات التصوير الفني، موزعة على محاور متعددة.

يتناول سيد قطب في هذا الكتاب اللغة القرآنية، لا باعتبارها مجرّد وسيلة للإبلاغ أو الإخبار، بل بوصفها أداة فنية تعتمد على الإيحاء، وتنتج صورة حيّة ناطقة يستشعرها القارئ ويتفاعل معها وجدانيًا قبل أن يدركها عقليًا. ويُركّز المؤلف على مفهوم “التصوير” بوصفه حجر الزاوية في البلاغة القرآنية، حيث تُرسم المعاني والمشاهد والمعارك والعقائد والوجدان الإنساني بالكلمات، كما تُرسم اللوحات بالفرشاة.

التمهيد الفكري: نظرة جديدة للقرآن

يبدأ سيد قطب بمقدمة عميقة يشرح فيها هدفه من هذا العمل، حيث أراد أن يعيد الوعي ببلاغة القرآن وجماله الفني بعيدًا عن المقاربات الجافة التي اختزلت النص القرآني في أُطر فقهية أو لغوية محدودة. ينقد قطب في هذا السياق ما وصفه بـ”المنهج العقلي البحت” في تفسير القرآن، والذي أهمل التذوق الوجداني والجمالي للنص.

يرى المؤلف أن القرآن لم يُنزَل ليكون كتابًا علميًا أو تاريخيًا أو حتى فلسفيًا، بل جاء كتاب هداية مؤثرًا في النفس البشرية، ومخاطبًا القلب والوجدان والعقل معًا، وهو ما يجعل اللغة القرآنية مختلفة عن لغة الكتب الأخرى. وهذا التوجه الفني عند سيد قطب هو الذي جعله يُركّز على الأثر الشعوري للنص، والكيفية التي تُحدث بها الصورة القرآنية وقعها في نفس المتلقي.

مفهوم التصوير الفني عند سيد قطب

يعتمد سيد قطب في تحديده لمفهوم “التصوير الفني” على الدمج بين المعنى الشعري والبلاغي للصورة وبين أبعادها النفسية والتخييلية. فالكلمة في القرآن ليست دلالة عقلية فقط، وإنما هي حركة وصوت وظل ولون، وهي تُحاكي البصر والسمع والبصيرة والخيال. ويُعرّف التصوير الفني بأنه “تجسيم المعنويات وتجسيد المجردات وتحويلها إلى صور حية تتحرك وتتنفس وتتكلم وتؤثّر”.

من خلال هذا التصور، يقدّم سيد قطب قراءة بصرية للنص القرآني، حيث لا تُفهم المعاني فقط، بل تُرى وتُحسّ وتُعاش كأن القارئ يُشاهد مشهدًا سينمائيًا مصوّرًا، مليئًا بالحركة والصوت والضوء. وهو يربط هذا التوجه بالأسلوب العربي الفطري الذي يعتمد على التشبيه والتمثيل والإيجاز المعجز.

مظاهر التصوير الفني في القرآن

يقسّم سيد قطب مظاهر التصوير الفني في القرآن إلى أنماط فنية متكاملة تتجلى من خلالها البلاغة التعبيرية الإلهية، ومن أبرز هذه الأنماط:

1. تصوير المشاهد الطبيعية والكونية

يعرض الكتاب مشاهد متعددة من الطبيعة كما صورها القرآن بطريقة فنية تشدّ الوجدان، مثل:

• مشهد الليل والنهار: “يُغشي الليلَ النهارَ يطلبه حثيثًا” (الأعراف: 54)، حيث يُقدَّم الليل والنهار في سباق حي نابض بالحركة.

• مشهد البحر والبرق والرعد: “أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق” (البقرة: 19)، وهذه الصورة تدمج الصوت بالضوء بالخوف، فتخلق انطباعًا داخليًا شديد التأثير.

2. تصوير القضايا العقدية

يعتمد القرآن على التصوير الفني لتقريب المعاني العقدية إلى الأذهان، مثل تصوير:

• الشرك بالله على شكل هشّ كبيت العنكبوت: “مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا” (العنكبوت: 41).

• القيامة كأنها زلزلة كونية شاملة: “إذا زلزلت الأرض زلزالها” (الزلزلة: 1).

3. تصوير المواقف الإنسانية

يتناول الكتاب كيف تُصوّر مشاعر الإنسان مثل الخوف، الطمع، الفرح، الطغيان، التوبة، الصراع الداخلي، من خلال كلمات حية نابضة، مثل:

• “كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها” (النازعات: 46)، في وصف هول يوم القيامة.

• أو تصوير الفرح المذموم: “وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع” (الرعد: 26).

4. تصوير الأحداث والمعارك

يرى سيد قطب أن القرآن في تصويره للمعارك مثل بدر وأُحد والخندق، لا يكتفي بسرد المعلومات، بل يُقدّمها بأسلوب درامي حافل بالحركة والانفعالات، ما يجعل المتلقي يعيش الحدث وكأنه يراه:

• مثل مشهد معركة بدر: “إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ…” (الأنفال: 11)، حيث تدخل النفس البشرية في عمق اللحظة.

التحليل النفسي في التصوير القرآني

يُبرز سيد قطب قدرة القرآن على رسم ملامح النفس البشرية بدقة فنية خارقة، من خلال التصوير الشعوري والتقلبات النفسية التي ترافق الإنسان في لحظات الضعف والقوة، في الإيمان والكفر، في الهداية والضلال. فالنفس البشرية تُصوَّر أحيانًا ككائن متمرد، وأحيانًا ككائن خائف تائب، كما في قوله: “خلق الإنسان من عجل” (الأنبياء: 37)، وقوله: “إن الإنسان خلق هلوعًا” (المعارج: 19).

خاصية الحركة في التعبير القرآني

من أهم ما يتميز به التصوير الفني في القرآن هو ديناميكية التعبير، فالمشهد القرآني ليس جامدًا، بل متحرّكًا ينبض بالحياة. يستخدم القرآن أفعال الحركة والصوت لتقديم مشاهد حيّة، كما في قوله: “ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب” (النمل: 88). فالمفردة القرآنية لا تُصوّر فقط، بل تتحرك وتُشعل خيال السامع.

الجدول: مقارنة بين التصوير القرآني والتعبير المجرد

أهمية الكتاب وأثره الفكري

يُعدّ كتاب التصوير الفني في القرآن من أبرز النصوص المؤسسة لمدرسة جديدة في تفسير القرآن تقوم على الذوق الأدبي والبلاغي، وتُحيي العلاقة الوجدانية مع النص القرآني بعيدًا عن التفسير العقلي البحت أو التحليل الفقهي التقليدي. كما أنه ساهم في تشكيل الوعي الفني لدى العديد من المفسرين والنقّاد الذين جاؤوا بعد سيد قطب، وأعاد الاعتبار لقيمة الجمال في النصوص الدينية.

المصادر والمراجع

• سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، الطبعة الكاملة.

• فهمي هويدي، مقالات حول التجديد الأدبي في التفسير، مجلة العربي.