لماذا حان وقت التخلص من المكاتب المفتوحة؟

شهدت بيئات العمل خلال العقود الماضية تحولات جذرية في تصميم المكاتب، حيث أصبحت المكاتب المفتوحة (Open Plan Offices) خيارًا شائعًا في المؤسسات والشركات حول العالم. كان الهدف من تبني هذا التصميم هو تعزيز التعاون بين الموظفين، تحسين التواصل، وتقليل تكاليف المساحات المكتبية. ومع ذلك، ومع تطور الأبحاث والدراسات المتعمقة حول تأثير بيئات العمل على الإنتاجية والصحة النفسية للموظفين، ظهر جليًا أن المكاتب المفتوحة قد لا تكون الحل الأمثل الذي لطالما اعتُمد عليه. بات واضحًا أن هناك أسبابًا علمية وإنسانية وعملية تدعو إلى إعادة النظر في هذه التصاميم، بل والتخلص منها لصالح بيئات عمل أكثر تخصيصًا وراحة وكفاءة.

مفهوم المكاتب المفتوحة وأهدافها الأولية

تقوم فكرة المكاتب المفتوحة على إزالة الحواجز والفواصل بين الموظفين داخل مساحة مكتبية واحدة، بحيث يتم وضع مكاتب العمل بشكل متصل أو في صفوف متقاربة، دون وجود جدران أو غرف مغلقة. الفكرة الأساسية كانت تهدف إلى:

• تعزيز التواصل الفوري بين أفراد الفريق.

• زيادة فرص التعاون والعمل الجماعي.

• تقليل تكاليف الإيجار والصيانة من خلال استغلال المساحات بشكل أكثر كثافة.

• خلق بيئة عمل مرنة تسمح بسهولة إعادة ترتيب الموظفين.

لكن رغم هذه الأهداف النبيلة، تبين أن الواقع العملي والإنساني يعاني من تحديات جمة في ظل هذه التصاميم.

الأثر السلبي للمكاتب المفتوحة على الإنتاجية

تشير العديد من الدراسات إلى أن المكاتب المفتوحة قد تكون أكثر تأثيرًا سلبيًا على إنتاجية الموظفين مما كان متوقعًا. الأسباب الأساسية لذلك تشمل:

• الضوضاء المستمرة والتشتت: يتعرض الموظفون لضوضاء متواصلة من محادثات الزملاء، مكالمات الهواتف، وحركات الآخرين، مما يعيق التركيز ويزيد من معدلات الأخطاء.

• انخفاض مستوى الخصوصية: يشعر العاملون بعدم الخصوصية، ما يسبب توترًا وقلقًا ويقلل من قدرتهم على أداء المهام التي تتطلب تركيزًا عميقًا.

• زيادة التوتر والإجهاد: البيئة المفتوحة تُسهل مراقبة الموظفين، مما يرفع من مستويات التوتر لديهم، ويؤدي إلى الإرهاق النفسي.

• مخاطر صحية متزايدة: انتشار الأمراض المعدية، لا سيما في ظل ظروف الأوبئة مثل كوفيد-19، يكون أسهل بكثير في المكاتب المفتوحة، نتيجة للتقارب المكاني بين الموظفين.

التأثير على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية

صحة الموظفين النفسية والاجتماعية تتأثر بشكل كبير من تصميم بيئة العمل. المكاتب المفتوحة بالرغم من كونها تهدف لتعزيز التعاون، إلا أنها أظهرت:

• عزلة اجتماعية غير متوقعة: يشعر بعض الموظفين بالانعزال حتى في الأماكن المفتوحة بسبب التوتر من المراقبة المستمرة أو الرغبة في الابتعاد عن الضوضاء.

• زيادة مستويات القلق والاكتئاب: أظهرت أبحاث أن العمل في بيئة مفتوحة يزيد من معدلات القلق والاكتئاب بسبب الإجهاد المستمر وعدم القدرة على التحكم في بيئة العمل.

• تدهور جودة العلاقات بين الزملاء: التفاعل الإجباري في المكاتب المفتوحة يمكن أن يؤدي إلى خلافات وصراعات، نتيجة عدم وجود مساحة شخصية تحمي الموظف.

تأثير المكاتب المفتوحة على الخصوصية المهنية والسرية

الكثير من الأعمال المهنية تتطلب خصوصية وحماية لمعلومات حساسة، سواء كانت تلك المعلومات تخص بيانات العملاء أو استراتيجيات الشركة أو قضايا شخصية للموظف. في المكاتب المفتوحة:

• عدم وجود بيئة مناسبة للحديثات السرية: صعوبة إجراء مكالمات هاتفية أو اجتماعات قصيرة خاصة دون قلق من التنصت أو السمع.

• تعرض الموظفين لمخاطر فقدان البيانات: من السهل أن تطال المعلومات الحساسة مسموعين غير مخولين بسبب عدم وجود حاجز مادي يحمي سرية هذه المعلومات.

• تأثير سلبي على أداء الموظفين الذين يحتاجون للسرية: مثل العاملين في المجالات القانونية، المالية، أو الطبية.

كيف أثرت جائحة كوفيد-19 على رؤية المكاتب المفتوحة؟

جائحة كوفيد-19 كانت نقطة تحوّل حاسمة في إعادة تقييم بيئات العمل، وخاصة المكاتب المفتوحة. من أبرز التأثيرات:

• تزايد الحاجة إلى التباعد الاجتماعي: التصميم المفتوح يفرض صعوبة في تطبيق قواعد التباعد، ما جعلها غير مناسبة لفترات الأوبئة.

• زيادة المخاوف الصحية: ارتفاع المخاطر الصحية دفع المؤسسات إلى التفكير جدياً في تعديل أو التخلص من المكاتب المفتوحة.

• انتشار العمل عن بُعد: جعلت الجائحة العمل من المنزل خيارًا أكثر انتشارًا، مما كشف ضعف بيئة العمل المفتوحة في دعم الاحتياجات الفردية.

البدائل الحديثة للمكاتب المفتوحة

بناءً على الأبحاث والتجارب الحديثة، بدأت المؤسسات تتجه نحو نماذج بديلة أكثر فاعلية في تحقيق التوازن بين التعاون والإنتاجية، أهمها:

1. المكاتب المغلقة أو ذات الحواجز القابلة للتعديل

تسمح هذه المكاتب للموظفين بالعمل في مساحة أكثر خصوصية مع إمكانية التواصل عند الحاجة، مع حواجز توفر تقليل الضوضاء والتشويش.

2. مكاتب العمل المختلطة (Hybrid Workspaces)

تمزج بين مساحات العمل الخاصة والمفتوحة، مع غرف اجتماعات مغلقة ومساحات مشتركة للاجتماعات الجماعية، مما يعطي المرونة في اختيار بيئة العمل المناسبة.

3. غرف العمل الفردية (Focus Rooms)

تُخصص هذه الغرف للمهام التي تتطلب تركيزًا عاليًا، وتوفر الخصوصية اللازمة لإنجاز الأعمال المعقدة.

4. مساحات العمل التعاونية الصغيرة

بدلًا من مساحة كبيرة مفتوحة، يتم تقسيم المساحات إلى وحدات صغيرة تسمح بالتعاون دون التضحية بالخصوصية.

5. الاعتماد على العمل عن بُعد والعمل الهجين

توفير خيار العمل من المنزل أو من مواقع أخرى يقلل الاعتماد على التصميمات التقليدية ويتيح للموظفين التحكم ببيئتهم.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين المكاتب المفتوحة وبعض البدائل الحديثة من حيث عدة معايير:

الدور المتغير للبيئة المكتبية في عصر الثورة الرقمية

مع تطور التكنولوجيا الرقمية وانتشار الأدوات الحديثة للتواصل والعمل، لم يعد الموظفون بحاجة إلى التواجد في مكاتب مفتوحة تقليدية. الحوسبة السحابية، تطبيقات الاجتماعات المرئية، وأدوات التعاون عبر الإنترنت جعلت بيئة العمل أكثر مرونة. المؤسسات التي تبنت بيئات مكتبية مرنة ومتنوعة تمكنت من تحسين إنتاجية الموظفين وتقليل معدلات الإجازات المرضية.

تأثير التصميم على استقطاب المواهب والاحتفاظ بها

تلعب بيئة العمل دورًا مهمًا في جذب الكفاءات والاحتفاظ بها. الموظفون الحاليون والجدد يبحثون عن أماكن عمل توفر بيئة مريحة، صحية، وداعمة. تصميم المكتب المفتوح بات يمثل عقبة أمام تحقيق هذه الأهداف، خاصةً مع ازدياد الوعي بأهمية الصحة النفسية في مكان العمل. الشركات التي تقدم بيئات عمل مغلقة أو مختلطة وجدت تحسنًا ملحوظًا في مستوى الرضا الوظيفي والاحتفاظ بالموظفين.

استراتيجيات تطبيق بيئات عمل بديلة

الانتقال من المكاتب المفتوحة إلى بيئات أكثر خصوصية ومرونة يتطلب تخطيطًا دقيقًا، يشمل:

• تحليل احتياجات العمل والموظفين: فهم طبيعة العمل والمهام التي تتطلب خصوصية أو تعاونًا.

• توفير مساحات متنوعة: تشمل غرفًا مغلقة، مناطق تعاون، ومساحات للعمل الفردي.

• اعتماد التكنولوجيا: توفير أدوات اتصال فعالة تدعم المرونة.

• تشجيع ثقافة العمل المرنة: تمكين الموظفين من اختيار بيئة العمل المناسبة لهم.

• مراجعة دورية لتقييم البيئة المكتبية: للتأكد من توافقها مع أهداف الشركة واحتياجات الموظفين.

الخاتمة

بات واضحًا أن المكاتب المفتوحة، رغم شعبيتها السابقة، لم تعد تمثل الحل الأمثل لبيئات العمل الحديثة. أثبتت الدراسات العلمية والعملية أن هذه التصاميم تضر بالإنتاجية، الصحة النفسية، والخصوصية المهنية. الجائحة العالمية وتطور التكنولوجيا الرقمية ساعدا في تسريع هذا التحول نحو بيئات عمل أكثر خصوصية ومرونة. المؤسسات التي تستثمر في إعادة تصميم مكاتبها لتلائم احتياجات موظفيها على اختلاف مهامهم ومستويات تركيزهم هي التي ستتمتع بموظفين أكثر إنتاجية وسعادة، ما ينعكس إيجابيًا على نجاحها ونموها المستدام.

المصادر والمراجع

1. Bernstein, E. S., & Turban, S. (2018). The impact of the “open” workspace on human collaboration. Philosophical Transactions of the Royal Society B: Biological Sciences, 373(1753), 20170239.

2. Kim, J., & de Dear, R. (2013). Workspace satisfaction: The privacy-communication trade-off in open-plan offices. Journal of Environmental Psychology, 36, 18-26.