البيض وحماية الأطفال من السرطان

البيض أثناء الحمل ودوره في وقاية الأطفال من سرطان الثدي

في السنوات الأخيرة، تصاعد الاهتمام العلمي بالعوامل الغذائية المؤثرة في نشأة السرطان، خصوصاً تلك التي ترتبط بمرحلة ما قبل الولادة. ومن بين النتائج البحثية اللافتة التي أفرزتها دراسات حديثة، أن تناول البيض أثناء الحمل قد يسهم في تقليل احتمالية إصابة الأطفال لاحقاً بسرطان الثدي. هذه النتيجة لا تأتي من فراغ، بل ترتكز على معطيات بيولوجية دقيقة وتفسير علمي يرتبط بتطور الجنين والتغيرات الهرمونية والوراثية التي تطرأ خلال فترة الحمل.

القيمة الغذائية للبيض وأثرها خلال الحمل

البيض من أغنى الأطعمة بالعناصر الحيوية اللازمة لنمو الجنين وتطوره. تحتوي البيضة الواحدة على كميات كبيرة من البروتين الكامل، إضافة إلى مجموعة فيتامينات ومعادن تشمل:

• الكولين (Choline)

• فيتامين D

• فيتامين B12

• حمض الفوليك

• الحديد

• السيلينيوم

• الزنك

ويعد الكولين من أبرز هذه العناصر، حيث يلعب دوراً محورياً في تطور الدماغ والجهاز العصبي للجنين، كما يسهم في تنظيم التعبير الجيني، وهو ما يرتبط مباشرةً بإمكانية الوقاية من بعض أنواع السرطان.

الكولين ودوره في الوقاية من السرطان

الكولين هو أحد العناصر الأساسية المكوّنة للأغشية الخلوية، وله دور فعّال في عمليات المثيلة (Methylation)، وهي من التفاعلات الكيميائية الحيوية المسؤولة عن تعديل التعبير الجيني دون تغيير في تسلسل الحمض النووي DNA، ويُعرف هذا النوع من التعديل باسم “التغيّرات اللاجينية” (Epigenetic Changes).

أثناء الحمل، يؤثر ما تتناوله الأم من أغذية على هذه العمليات في الجنين. وقد أظهرت دراسات نشرتها مجلات طبية مرموقة مثل “Journal of the Federation of American Societies for Experimental Biology” أن تناول الأم لمستويات مرتفعة من الكولين خلال فترة الحمل يُعدّل من استجابة الجينات المرتبطة بخطر الإصابة بسرطان الثدي لدى الجنين الأنثى، مما يقلل بشكل كبير من احتمالات تطور هذا السرطان لاحقاً في حياتها.

العلاقة بين الكولين وهرمون الإستروجين

من المعلوم أن بعض أنواع سرطان الثدي تعتمد على هرمون الإستروجين في تطورها. وهنا يتجلى الدور الحيوي للكولين في تعديل طريقة استجابة الجسم لهذا الهرمون. حيث أظهرت التجارب الحيوانية أن الفئران المولودة من إناث تغذت على نظام غذائي غني بالكولين أثناء الحمل أظهرت استجابات هرمونية منخفضة، ومعدلات نمو أورام أقل، ومؤشرات بيوكيميائية مقاومة لتطور السرطان مقارنة بفئران أخرى.

دور فيتامين D في الوقاية من السرطان

لا يقتصر دور البيض على تزويد الجسم بالكولين فحسب، بل يُعد من المصادر النادرة الطبيعية لفيتامين D، وهو فيتامين ذائع الصيت في تقوية المناعة والعظام، ولكنه كذلك عامل محتمل في الوقاية من أنواع متعددة من السرطان، ومنها سرطان الثدي. يرتبط فيتامين D بآليات التحكم في نمو الخلايا وتمايزها، وله تأثير مثبط على تكاثر الخلايا السرطانية.

بيئة الرحم وتشكيل مستقبل صحة الطفل

خلال الحمل، يُشكّل الرحم البيئة الأولى التي يتفاعل معها الجنين، ويؤثر فيها كل ما تتناوله الأم من أغذية، أو تتعرض له من ملوثات، أو تعانيه من إجهاد أو أمراض. يُعرف هذا المفهوم علمياً باسم “البرمجة الجنينية” (Fetal Programming)، وقد أثبتت أبحاث واسعة أن هذه البيئة الأولية تُحدد إلى حد كبير الاستعداد الوراثي والنفسي والفيزيولوجي للأمراض المزمنة لاحقاً، بما في ذلك السرطان.

جدول: العناصر الرئيسية في البيض وتأثيرها على نمو الجنين ومناعته ضد السرطان

الاعتبارات الوقائية والنصائح العامة

رغم أهمية البيض في النظام الغذائي للحامل، يجب الانتباه إلى بعض الاعتبارات لضمان سلامته وفعاليته:

• تناول البيض المطبوخ جيداً فقط: لتجنب الإصابة بعدوى السالمونيلا.

• الاعتدال في الاستهلاك: حيث أن الإفراط قد يؤدي إلى مشاكل في الكوليسترول خاصة عند النساء المعرضات لمشكلات قلبية.

• اختيار بيض عضوي أو من مصادر موثوقة: لتقليل التعرض للمضادات الحيوية أو الهرمونات الصناعية.

• الدمج مع أطعمة أخرى داعمة للصحة: مثل الخضراوات الورقية والفواكه الغنية بمضادات الأكسدة.

نتائج أبحاث بشرية داعمة

نشرت جامعة كورنيل الأمريكية دراسة على عدد من النساء الحوامل تتبعت أثر استهلاك البيض (كمصدر رئيسي للكولين) على أطفالهن لسنوات لاحقة. أظهرت النتائج أن البنات اللواتي وُلدن لأمهات تناولن وجبات غنية بالكولين أثناء الحمل كانت لديهن مؤشرات جينية وسلوكية أقوى في مقاومة تحفيز الأورام، مقارنة بالأخريات.

بالإضافة إلى ذلك، هناك إشارات من دراسات متعددة الطولية (Longitudinal Studies) إلى أن تعرّض الجنين لوفرة في بعض العناصر الحيوية مثل الكولين وفيتامين D يقلل من معدل الإصابة بأمراض مزمنة في مراحل لاحقة من الحياة، ومنها السرطان، والأمراض الأيضية كالسمنة والسكري.

الآليات البيولوجية: كيف يحدث التأثير؟

الوقاية المحتملة من سرطان الثدي من خلال استهلاك البيض في الحمل تتم عبر عدة آليات:

1. تحسين كفاءة التمثيل الجيني: العناصر النشطة في البيض تعدل الطريقة التي يتم بها التعبير عن الجينات المسؤولة عن تنظيم نمو الخلايا.

2. تعزيز الاستجابة المناعية للجنين: مما يجعله أكثر قدرة على مواجهة الطفرات الجينية أو نمو الخلايا غير الطبيعية مستقبلاً.

3. تقليل الالتهابات المزمنة: الكولين وفيتامين D يعززان البيئة المناعية المقاومة للالتهابات المزمنة، والتي تعد محفزاً لنمو الأورام.

4. الحد من التغيرات الهرمونية المفرطة: وخاصة التي ترتبط بالإستروجين، ما يقلل فرص تحفيز الأورام المعتمدة على هذا الهرمون.

التوازن بين الوقاية والتغذية الصحية

لا يمكن اعتبار البيض دواءً وقائياً بذاته، لكنه عنصر مهم ضمن منظومة غذائية شاملة. يتعين على المرأة الحامل تنويع مصادر غذائها للحصول على مجموعة متكاملة من المغذيات الدقيقة والكبرى، كما ينبغي تجنب الاعتماد على مكملات غذائية دون استشارة الطبيب.

التغذية المتوازنة أثناء الحمل لا تضمن فقط نمواً صحياً للجنين، بل تسهم في تشكيل جهازه المناعي، العصبي، والغدي بطريقة تقلل من قابليته للإصابة بأمراض معقدة في المستقبل، بما فيها السرطان.

المراجع:

1. Zeisel, S. H. (2006). Choline: Critical Role During Fetal Development and Dietary Requirements in Adults. Annual Review of Nutrition, 26, 229–250.

2. Mehedint, M. G., & Zeisel, S. H. (2013). Choline’s role in maintaining maternal health during pregnancy. Journal of Biochemical Nutrition, 52(4), 151–160.