البحث عن الذات الحقيقية

لكل من يبحث عن نفسه

في عمق التجربة الإنسانية، يكمن سؤال جوهري، لا يهدأ صداه في أعماق النفس: من أنا؟ ليس هذا السؤال مجرد استفسار فلسفي عابر، بل هو نداء داخلي ينبع من الحيرة، ويشتد حين تتقاذف الإنسان تيارات الحياة المتقلبة بين النجاح والفشل، بين الطمأنينة والقلق، وبين الانتماء والغربة. فعملية البحث عن الذات ليست ترفًا ذهنيًا ولا تمرينًا تأمليًا، بل هي من أشد المراحل الحياتية كثافة وتأثيرًا في تشكيل الشخصية، واتخاذ القرارات، وبناء العلاقات، واكتساب المعنى من الوجود ذاته.

تبدأ رحلة البحث عن الذات غالبًا في مراحل مبكرة من الحياة، حين يبدأ الفرد بملاحظة الفوارق بين ما يشعر به داخليًا وبين ما يُتوقع منه اجتماعيًا. في مرحلة المراهقة، على سبيل المثال، تتفجر الأسئلة: ما هدفي؟ ما الذي أريده حقًا؟ لماذا أشعر بالفراغ رغم كل شيء؟ وتتصاعد هذه التساؤلات مع كل تجربة تفكك فيها المنظومة التي نشأ فيها الإنسان، سواء كانت منظومة عائلية، أو دينية، أو فكرية، أو مهنية.

الهوية: التكوين والتفكك

الهوية ليست كيانًا ثابتًا أو تركيبة جاهزة، بل هي منظومة ديناميكية تتغير بتغير الظروف، وتتطور مع النمو العقلي والنفسي. تبدأ بتراكمات الطفولة، بما في ذلك اللغة، والانتماء الأسري، والقيم الدينية أو الثقافية، وتتوسع مع تأثير المدرسة، والمجتمع، والتكنولوجيا، والأحداث الحياتية. إلا أن هذه الهوية تتعرض لتشققات كلما اكتشف الإنسان تعارضًا بين ذاته الحقيقية وبين الصور النمطية التي فرضت عليه.

غالبًا ما يعيش الإنسان في فترات طويلة من حياته متقمصًا أدوارًا لا تعبر عنه فعلًا، متمسكًا بهويات مكتسبة لا تشبهه، منسجمًا مع قوالب اجتماعية أو مهنية فقط لأنه يخشى المجهول. لكن مع مرور الوقت، تتراكم العلامات الدالة على أن هناك شيئًا ما ناقصًا. قد تكون هذه العلامات على شكل قلق مزمن، شعور بعدم الانتماء، انهيارات داخلية، أو حتى نجاحات جوفاء لا تمنح الرضا. هذه كلها إشارات بأن الذات الحقيقية تُنادي، تطلب التحرر من الزيف والتزييف.

الاغتراب الداخلي

من أخطر ما يصيب الإنسان في رحلة البحث عن الذات هو الاغتراب، ليس الاغتراب الجغرافي أو الاجتماعي، بل الاغتراب الداخلي، حين يشعر الإنسان بالغربة عن نفسه، وكأنه يعيش حياة شخص آخر، ويتحدث بلسان لا يشبهه، ويتصرف وفق نماذج لا يؤمن بها. هذا الاغتراب قد يؤدي إلى ما يعرف في علم النفس بالانفصال الداخلي أو “dissociation”، حيث يصبح الشخص مراقبًا لحياته بدلًا من أن يكون فاعلًا فيها.

إن أسباب هذا الاغتراب متعددة. منها التربية الصارمة التي تُقمع فيها العواطف، أو المجتمعات التي لا تحتمل الاختلاف، أو المؤسسات التعليمية التي تهمش الإبداع الذاتي لصالح التلقين والانصياع. وفي خضم هذه البيئة، يفقد الإنسان صوته الداخلي ويبدأ في تقليد الأصوات العالية من حوله، حتى ينسى ما كان عليه في الأصل.

النفس الأصيلة ومفهوم التحقق

تتحدث الفلسفة الوجودية وعلم النفس الإنساني عن مفهوم “النفس الأصيلة”، وهي تلك النسخة من الذات التي تتوافق فيها الأفعال مع القيم الداخلية، وتتوحد فيها الرغبات مع السلوكيات، وتُستمد فيها القرارات من وعي داخلي لا من ضغوط خارجية. الوصول إلى النفس الأصيلة يتطلب شجاعة نادرة، لأن مواجهة الذات هي من أصعب المواجهات. فغالبًا ما يكتشف الإنسان في نفسه تناقضات لم يكن يعيها، وأوهامًا تمسك بها لسنوات، وعلاقات بناها على أسس هشّة، ومسارات مهنية أو فكرية لم يكن مقتنعًا بها في العمق.

التحقق الذاتي، وفقًا لعالم النفس “أبراهام ماسلو”، هو أعلى مستويات الحاجة النفسية، حيث يشعر الإنسان بأنه يعيش حياته وفقًا لإمكاناته الحقيقية، ويعبّر عن ذاته بصدق، ويصل إلى حالة من “الاكتمال الداخلي”. إلا أن هذا التحقق لا يحدث فجأة، بل هو نتيجة مسار طويل من التعرية النفسية، والتخلي عن الزائف، واستبداله بالأصيل.

مراحل البحث عن الذات

لا تتبع رحلة البحث عن الذات مسارًا خطيًا، بل تمر بمراحل متكررة ومتقاطعة، منها:

• الانفصال عن القطيع: حيث يبدأ الفرد بالتساؤل حول ما إذا كانت القيم والعادات التي نشأ عليها تعبّر عنه حقًا.

• التفكيك: تفكيك الصور الذهنية القديمة عن النفس، والنقد الذاتي للأدوار المتبناة.

• الفراغ: مرحلة انتقالية يشعر فيها الفرد بالضياع لأنه فقد الهويات القديمة ولم يكتسب بعد هويته الأصيلة.

• البحث النشط: حيث يشرع في استكشاف مجالات جديدة، وقراءة فلسفات مختلفة، وتكوين علاقات أكثر صدقًا.

• التكامل: حيث تتوحد الذات وتستقر، ويشعر الإنسان بالاتساق الداخلي.

العوامل المؤثرة في تشكل الذات

عدد من العوامل تلعب دورًا محوريًا في تشكل الذات وتحديد مسار البحث عنها:

المعاناة كطريق إلى الذات

رغم قسوتها، تلعب المعاناة دورًا مفصليًا في كشف الذات الحقيقية. لحظات الفقد، الإحباط، الإخفاق، أو حتى المرض، تكشف لنا عن طبقات من دواخلنا لم نكن نعي وجودها. في حالات كثيرة، لا يبدأ البحث الحقيقي عن الذات إلا بعد صدمة ما. فكما أن المعادن الثمينة لا تظهر إلا بالحفر العميق، كذلك لا تنكشف الجواهر الداخلية للإنسان إلا عندما تهتز الأرض من تحته.

الفيلسوف الألماني “نيتشه” أشار إلى هذه العلاقة بعبارة شهيرة: “من لديه سبب للعيش، يمكنه أن يتحمل أي كيف”. المعاناة تكشف هذا “السبب”، وتعرّي الزائف من الحقيقي، وتدفع الإنسان للغوص في أعماقه بحثًا عن مركز ثقله الداخلي.

تقنيات البحث عن الذات

يُستخدم عدد من الوسائل المعرفية والنفسية في عملية البحث عن الذات. من أبرزها:

• الكتابة التأملية: تدوين الأفكار والمشاعر يساعد على تنظيم الفوضى الداخلية وكشف الأنماط المتكررة.

• العلاج النفسي: سواء كان تحليليًا أو وجوديًا أو سلوكيًا، يمكن أن يساعد في فهم الماضي وتفكيك المعتقدات المقيدة.

• الانعزال المؤقت: الانسحاب المؤقت من الضجيج الاجتماعي يمنح فرصة للاستماع إلى الصوت الداخلي.

• التجربة: خوض تجارب جديدة، حتى تلك التي تبدو غريبة، يفتح الأفق لاكتشاف جوانب غير معروفة من الذات.

• القراءة الفلسفية والروحية: الاطلاع على أفكار الآخرين حول الوجود والمعنى يمكن أن يكون محفزًا على التأمل الذاتي.

الذات المزيفة في عصر الرقمنة

من التحديات المعاصرة في رحلة البحث عن الذات هو ما تسببه التكنولوجيا، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، من تضليل لصورة الإنسان عن نفسه. نحن لا نعيش حياتنا فحسب، بل نعرضها أمام جمهور افتراضي، ونسعى لتجميلها أو اختصارها في لقطات وانتقائية، ما يولد انفصالًا بين من نكون حقًا ومن نعرضه على العلن.

في هذا السياق، تصبح الهوية الرقمية أحيانًا أكثر تأثيرًا من الهوية الواقعية. وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من التشويش، وتغليب صورة الذات المصممة على حساب الذات الحقيقية، مما يخلق حالة من الانفصال النفسي الحاد تتطلب وعيًا عميقًا وممارسة نقدية يومية للتكنولوجيا واستخدامها.

النضج النفسي وتحمل مسؤولية الذات

واحدة من العلامات الأساسية على أن الإنسان بدأ يقترب من ذاته هي تحمله لمسؤولية حياته كاملة. أي التوقف عن إلقاء اللوم على الظروف، أو الأهل، أو المجتمع. حين يدرك الإنسان أن لا أحد سواه يمكنه أن يعيش حياته، يصبح قادرًا على اتخاذ قرارات مؤلمة أحيانًا، لكنها ضرورية للنمو.

النضج النفسي لا يعني الاستقرار فقط، بل هو القدرة على تقبل الذات كما هي، بعيوبها وقوتها، بماضيها ومستقبلها، بارتباكها واتساقها. أن يكون الإنسان ذاته، دون أقنعة، هي ذروة الشجاعة، وغاية كل رحلة بحث.

المراجع:

1. Carl Rogers, On Becoming a Person, Houghton Mifflin, 1961.

2. Viktor E. Frankl, Man’s Search for Meaning, Beacon Press, 1946.