أوجه الاستعاذة والبسملة في وسط السورة

تُعتبر الاستعاذة والبسملة من العناصر الجوهرية في القرآن الكريم، حيث تشكلان بداية آيات وسور كثيرة، وتؤديان وظائف روحية ولغوية متعددة ضمن النص القرآني. في العادة، نجد الاستعاذة (الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم) والبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية السورة، لكن هناك استثناءات ونماذج خاصة لظهورهما في وسط السورة، وهو ما يستحق دراسة مفصلة لفهم الحكمة البلاغية والشرعية من وراء ذلك، والتعرف على الأوجه المختلفة لتوظيفهما داخل النص القرآني.

في هذا المقال، سنتناول أوجه الاستعاذة والبسملة عندما ترد في وسط السورة، متعرضين للمعاني اللغوية والشرعية، وسياقات النزول، وأهميتها في تقسيم النص وترسيخ المفاهيم القرآنية، مع عرض تفصيلي للمظاهر المتعددة لهما، مستندين إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية وشروح علمية معتبرة.

الاستعاذة والبسملة: التعريف والوظيفة الأساسية

الاستعاذة

الاستعاذة في القرآن هي طلب الحماية من الله تعالى من شر الشيطان الرجيم. وتتمثل في قول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». وهي تأخذ شكل دعاء قصير للتبرؤ من الشيطان وأفعاله، واللجوء إلى الله للحماية من وسوسته وتأثيره الضار. جاءت الاستعاذة لتكون مقدمة روحية تساعد السامع أو القارئ على الطهارة القلبية والاستعداد النفسي لتلقي الكلام الإلهي.

في اللغة، تعني “الاستعاذة” التوجه بالطلب إلى المولى لدرء المكروه، وهي في القرآن تعبير عن الخشية والاحتراز.

البسملة

البسملة هي عبارة “بسم الله الرحمن الرحيم” التي تُعتبر من أكثر العبارات تكرارًا في القرآن، حيث تبدأ بها جميع السور إلا سورة التوبة. تعبر البسملة عن التوسل والتبرك باسم الله وذكر صفاته الرحمن والرحيم، اللتين تجسدان لطف الله وعطفه ورحمته بالعباد.

وظيفة البسملة تشتمل على توجيه القارئ أو المستمع لبدء العمل أو القراءة باسم الله، لتحقيق البركة والنجاح في المهمة، وتحفيز الخشوع والإخلاص.

الاستعاذة والبسملة في وسط السورة: صور مختلفة

في أغلب الأحيان نجد الاستعاذة والبسملة في بداية السورة، لكن هناك حالات مميزة حيث تتكرر هذه العبارات أو تظهر في أماكن وسط النص. أهم هذه الحالات هي:

1. الاستعاذة في وسط السورة

من أشهر المواضع التي تظهر فيها الاستعاذة داخل السورة هي في بداية سورة النمل. ففي بداية السورة وردت الآيات بذكر قصة موسى عليه السلام، ثم جاءت الاستعاذة بشكل غير معتاد في وسط السورة، وهي قوله تعالى:

“قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ ۖ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (سورة النمل: 62)

وهنا لم تأتِ الاستعاذة في بداية السورة، بل جاءت تعبيرًا عن موقف موسى عليه السلام حين طلب الحماية من الله عند مواجهة السحرة. وهي استعاذة فردية لموسى ليست من مقدمات السورة، بل جاءت ضمن السرد القصصي.

هذا يوضح أن الاستعاذة يمكن أن تكون أيضًا جزءًا من النص القرآني داخل السورة، ضمن الحوار أو المواقف، وليست مقتصرة فقط على بداية السورة.

2. الاستعاذة في بداية بعض السور

مع أن هذا لا يندرج تحت موضوع الاستعاذة في وسط السورة، إلا أن السورة الوحيدة التي لم تبدأ بالبسملة هي سورة التوبة التي تبدأ مباشرة بـ «براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين…» مع عدم وجود بسملة في بدايتها. لكن في سورة النمل تكرر ذكر الاستعاذة داخل السورة، مما يجعلها استثناء.

3. البسملة في وسط السورة

في القرآن الكريم هناك حالة فريدة، وهي سورة النمل، حيث ذُكرت البسملة مرتين: مرة في بداية السورة، ومرة أخرى في وسطها، في الآية التي تضم رسالة سليمان إلى ملكة سبأ. يقول تعالى:

“إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” (سورة النمل: 30)

هذه الآية التي تمثل رسالة مكتوبة موجهة من سليمان إلى ملكة سبأ تبدأ بـ “بسم الله الرحمن الرحيم”، وهو ما يشكل توظيفًا للبسملة داخل النص نفسه وليس في بدايته فقط.

هذا المثال يوضح أن البسملة لم تكن فقط لبدء السورة، بل لها دلالة وظيفية إضافية وهي تضمينها في خطاب رسمي أو رسالة، لتكون إعلانًا بالبركة والرعاية الإلهية للرسالة.

الدلالات اللغوية والبلاغية لأوجه الاستعاذة والبسملة في وسط السورة

أوجه الاستعاذة

• طلب الحماية في مواقف محددة: كما في آية النمل، حيث استعاذ موسى عليه السلام في موقف المواجهة مع السحرة. هذه الاستعاذة تعكس لحظة توتر شديد تحتاج إلى حماية مباشرة.

• دلالة على أهمية التنزه عن الشر: دخول الاستعاذة في منتصف النص يؤكد على أن التنزه من شر الشيطان لا يقتصر فقط على بداية التلاوة، بل هو حاجة مستمرة في كل مراحل التعامل مع النص والواقع.

• تقسيم منطقي للنص: يمكن أن تكون الاستعاذة في وسط السورة كفاصل معنوي أو تنبيهي، يهيئ السامع لموضوع جديد أو نقطة تفصيلية في الخطاب الإلهي.

أوجه البسملة

• البركة والافتتاح الرسمي: تكرار البسملة في وسط السورة، كما في رسالة سليمان، يدل على أن هذه العبارة تمثل توقيعًا رسميًا، أو بداية جديدة لنص منفصل ضمن النص الأكبر.

• تأكيد على رحمة الله ومغفرته: البسملة تحوي اسمين من أسماء الله الحسنى، وهما “الرحمن” و”الرحيم”، مما يعزز فكرة أن كل كلام ينطلق باسم الله رحيم ومرحوم هو كلام ذو أبعاد أخلاقية وروحية سامية.

• توزيع دلالي للنص: وجود البسملة داخل السورة قد يشير إلى تقسيم داخلي للنص، يظهر كيف تتداخل قصص وأحداث متعددة في سياق واحد مع توضيح موقفي.

أوجه المقارنة بين الاستعاذة والبسملة داخل السورة

الخلفية الشرعية والنصوص الداعمة

استُشهد في الشرع بالاستعاذة والبسملة كأفعال تقليدية في بداية قراءة القرآن أو بدء أي عمل طيب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“إذا قرأ أحدكم القرآن فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم” (رواه مسلم)

كما وردت أحاديث تحث على البسملة، خاصة في بداية الأفعال والقول، لطلب البركة.

لكن الاستعاذة والبسملة حين وردتا في وسط السورة تكتسبان معنى إضافيًا، حيث تعكسان مواقف سردية أو تنظيمية للنص، كما يظهر في سورة النمل.

آثار الاستعاذة والبسملة في وسط السورة على القارئ والمتلقي

عندما تأتي هذه العبارات في غير موضعها التقليدي، فإنها تؤدي عدة وظائف:

• تجديد حالة التهيؤ الذهني والروحي: فهي كإشارة توقف، تهيئ النفس لتلقي موضوع جديد أو جزء مهم من النص.

• رفع درجة الوعي بالقيمة الإلهية للكلام: بأن الكلام لا ينقطع عن كونه مقدسًا، بل يتجدد في كل جزء.

• تأكيد على أن القرآن ليس مجرد كلام، بل خطاب حيّ متداخل، مع وجود فواصل تنظيمية ترفع من اهتمام القارئ والتدبر.

خلاصة

الاستعاذة والبسملة في وسط السورة ليست مجرد زوائد لغوية أو كلمات عابرة، بل هما عناصر نصية ذات دلالات كبيرة تعكس عمق الخطاب القرآني وثراء تركيبته. الاستعاذة تظهر كدعاء وقائي في مواقف معينة، والبسملة كعبارة رسمية توحي بالبداية والبركة حتى في داخل النص، لا فقط في بدايته.

هذا الاستخدام المتنوع يعكس حكمة إلهية في صياغة القرآن، حيث تتداخل هذه العبارات في مواقع مختلفة لتعزيز المعاني، وتنظيم الأفكار، وتوجيه النفوس نحو التأمل والخشوع، مما يثري تجربة التفاعل مع كلام الله ويؤكد أن القرآن كتاب حي متجدد في معانيه وأساليبه.

المراجع

1. القرطبي، تفسير الجامع لأحكام القرآن.

2. الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن.

هذا البحث يلقي الضوء على الظاهرة اللغوية والشرعية للاستعاذة والبسملة داخل السورة، مع التركيز على سورة النمل كمثال فريد في القرآن الكريم.