هل تعاني شركتك من الإيجابية السامة؟
تعتبر بيئة العمل من أكثر العوامل تأثيرًا في أداء الموظفين ورفاهيتهم، حيث تلعب دورًا حاسمًا في تعزيز الإنتاجية والإبداع، وكذلك في بناء علاقات مهنية قوية. إلا أن هناك مشكلة خفية قد تضر بشكل كبير بحياة الموظفين وتؤثر على ثقافة العمل بشكل عام، وهي ما يُعرف بالإيجابية السامة. هذه الظاهرة لا ترتبط فقط بالتعامل مع المشاعر السلبية بل تتعدى ذلك لتشمل أنماطًا من التصرفات والأفكار التي قد تبدو مشجعة ظاهريًا، لكنها في الواقع تسهم في تدمير الصحة النفسية للعاملين وتقلل من فاعليتهم.
تتضمن هذه المقالة تحليلًا معمقًا للإيجابية السامة، كيفية ظهورها في بيئات العمل، تأثيرها على الموظفين، واستراتيجيات التعامل معها لضمان بيئة عمل صحية ومتوازنة.
ما هي الإيجابية السامة؟
الإيجابية السامة هي ظاهرة تتجسد في دفع الأفراد في بيئة العمل لتجاهل أو كبت المشاعر السلبية، وذلك تحت ضغط ثقافة العمل التي تروج لفكرة أن التفاؤل المفرط والتحلي بالإيجابية في جميع الأوقات هو الطريق الوحيد للنجاح. في الواقع، لا تعني الإيجابية السامة بالضرورة أن تكون الشخصيات المتبنية لها فاشلة في أداء أعمالها أو في تقديم الدعم لزملائهم، بل هي تأتي في صورة قوالب سلوكية اجتماعية تشجع على قمع المشاعر الطبيعية التي قد يشعر بها الأفراد، مثل التوتر، القلق، والغضب، والإحباط.
تتمثل الإيجابية السامة في محاولة مستمرة لنقل رسائل مثل: “يجب أن تكون دائمًا سعيدًا”، “لا توجد مشكلة لا يمكن التغلب عليها”، أو “التفكير الإيجابي هو الحل”. بينما قد تكون هذه الرسائل تحفيزية في بعض الحالات، إلا أنها تتجاهل المشاعر الحقيقية للموظف أو الفريق، مما يؤدي إلى كبت العواطف الحقيقية.
كيف تظهر الإيجابية السامة في بيئة العمل؟
تتجسد الإيجابية السامة في بيئات العمل بعدة طرق قد تبدو في البداية غير مؤذية، لكنها تؤدي إلى نتائج عكسية في النهاية. من بين أبرز مظاهرها:
1. التجاهل المفرط للمشاعر السلبية
في بعض بيئات العمل، قد يُطلب من الموظفين التظاهر بأنهم في حالة جيدة طوال الوقت، حتى وإن كانوا يواجهون ضغوطًا أو مشاكل حقيقية. هذا لا يؤدي فقط إلى زيادة الشعور بالقلق والتوتر، بل يخلق أيضًا فجوة بين حقيقة ما يشعر به الموظف وما يظهره من الخارج. الموظف الذي يضطر لإخفاء مشاعره السلبية يصبح أكثر عرضة للانهيار النفسي أو الاستنفاد.
2. التجاهل للمشاكل الحقيقية
الإيجابية السامة قد تؤدي إلى إخفاء المشاكل الحقيقية في الشركة تحت طاولة التفاؤل. بدلاً من مواجهة القضايا والتحديات التي تواجهها الشركة، يُشجع الأفراد على “التحلي بالإيجابية” وكأن هذه المشكلات غير موجودة. هذا يساهم في تعطيل عمليات التحسين أو التطوير التي تحتاجها الشركة، كما يعوق فرص الابتكار والتفكير النقدي.
3. الضغط للتفكير بشكل دائم بشكل إيجابي
يُشعر الموظفون في بيئة العمل المملوءة بالإيجابية السامة بأنهم مجبرون على “التفكير الإيجابي” في كل الأوقات. حتى إذا كانت هناك مشكلة أو قرار يحتاج إلى تفكير نقدي، فإن الموظف الذي لا يعبر عن أي قلق أو شكوك قد يُعتبر شخصًا غير متعاون أو “سلبيًا”، مما يعزز الضغط النفسي عليه.
4. الفشل في الاعتراف بالإحباط والاحتراق الوظيفي
الإيجابية السامة غالبًا ما تدفع الموظفين إلى خوض تجارب متكررة من الاحتراق الوظيفي. عند عدم وجود مساحة للاعتراف بمشاعر الإرهاق أو الإحباط، يبدأ الموظف في تجاهل حاجاته الشخصية، وبالتالي تتراكم الضغوط النفسية والجسدية.
تأثير الإيجابية السامة على الموظفين والشركة
الإيجابية السامة تؤدي إلى تأثيرات سلبية عميقة على رفاهية الموظفين وأدائهم في العمل، مما قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على الثقافة التنظيمية بأكملها.
1. انخفاض الروح المعنوية
عندما يُجبر الموظفون على إخفاء مشاعرهم السلبية، فإن ذلك يقلل من قدرتهم على التواصل الصادق مع زملائهم والمديرين. هذه البيئة تزيد من العزلة والشعور بالوحدة، مما يؤثر سلبًا على الروح المعنوية بشكل عام.
2. زيادة معدلات الإجهاد والقلق
الفشل في مواجهة المشاعر السلبية بشكل صحيح يمكن أن يؤدي إلى زيادة مستويات الإجهاد والقلق لدى الموظفين. مع مرور الوقت، يصبح الموظف أكثر عرضة لمشاكل صحية مثل القلق المزمن، الاكتئاب، واضطرابات النوم، مما ينعكس بشكل مباشر على أدائه في العمل.
3. تدني الإنتاجية
في بيئات العمل التي تروج للإيجابية السامة، يصبح الموظفون غير قادرين على التفاعل بشكل هادف مع القضايا أو المشاكل التي قد تؤثر على الإنتاجية. عدم القدرة على التعبير عن المشاعر السلبية أو المخاوف يؤدي إلى تجاهل القضايا الهامة التي قد تحسن الكفاءة، مما يؤدي إلى تدني الإنتاجية.
4. الإحساس بعدم الاعتراف بالجهود
في بيئة مليئة بالإيجابية السامة، قد يشعر الموظف بأن كل جهد يبذله يُعتبر غير كافٍ أو غير مُلاحظ. عندما يُطلب منهم دائمًا التفكير في “الجانب المشرق”، يتلاشى الاعتراف بالمشاكل الحقيقية التي قد يعانون منها. وبالتالي، يمكن أن يؤدي ذلك إلى شعور بالإحباط والتقليل من قيمتهم الذاتية.
5. التأثير على علاقات العمل
ثقافة الإيجابية السامة تمنع الموظفين من بناء علاقات عمل صحية وحقيقية، حيث تسيطر الأجواء المصطنعة على التواصل اليومي. بدلاً من أن يتشارك الموظفون آراءهم وأفكارهم بشكل مفتوح، يتجنبون التعبير عن المشاعر السلبية خوفًا من أن يُعتبروا غير إيجابيين.
كيف يمكن مواجهة الإيجابية السامة؟
مواجهة الإيجابية السامة في بيئة العمل يتطلب تغييرًا في الثقافة التنظيمية ونقلها نحو بيئة أكثر واقعية ومتوازنة. هناك عدة استراتيجيات يمكن أن تساعد الشركات في معالجة هذه المشكلة:
1. تشجيع الحوار المفتوح والصريح
يجب على الشركات أن تشجع الموظفين على التعبير عن مشاعرهم السلبية بطريقة بناءة. بناء ثقافة منفتحة تمكن الموظفين من التحدث عن مشاكلهم أو تحدياتهم دون خوف من الحكم عليهم أو الشعور بالذنب.
2. الاعتراف بالمشاعر الإنسانية
من المهم أن تدرك الشركات أن جميع الموظفين هم بشر وأن المشاعر السلبية هي جزء طبيعي من الحياة العملية. الاعتراف بهذه المشاعر ومنح الموظفين فرصة لمعالجتها يعزز بيئة العمل الصحية.
3. تقديم دعم نفسي وموارد للمساعدة
يمكن للشركات توفير دعم نفسي من خلال برامج مساعدة الموظفين أو استشاريين مختصين لمساعدة الأفراد في التعامل مع الإجهاد النفسي. كما أن التدريب على مهارات الذكاء العاطفي يمكن أن يساعد الموظفين في التعبير عن مشاعرهم بطرق أكثر فعالية.
4. التركيز على الحلول العملية
بدلاً من التركيز على التفاؤل المفرط، يجب على الشركات تعزيز ثقافة حل المشكلات بشكل واقعي. عندما تظهر تحديات أو مشكلات، من المهم أن يكون هناك نقاش مفتوح حول الحلول الممكنة بدلاً من محاولة تجاهل المشكلة بدافع الإيجابية الزائدة.
الخلاصة
الإيجابية السامة تمثل خطرًا حقيقيًا على رفاهية الموظفين وأداء الشركات، ولكن من خلال الوعي بالمشكلة وتبني استراتيجيات فعالة للتعامل معها، يمكن تحويل بيئة العمل إلى مكان يدعم النمو الشخصي والمهني. إن إدراك الفرق بين التفاؤل الطبيعي والإيجابية السامة يمثل خطوة أولى نحو خلق بيئة عمل تكون أكثر واقعية وصحية لجميع الأفراد.
