الإحسان في الإسلام: مفهوم شامل

شرح حديث (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) – دراسة شاملة ودقيقة

مقدمة

حديث النبي ﷺ: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء…” حديث عظيم في معناه، شامل في دلالاته، جامع لأصول التعامل الإنساني، ومقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية. يُعد هذا الحديث قاعدة كبرى من قواعد الأخلاق والمعاملات في الإسلام، لما فيه من إرساء لمبدأ الإحسان في كل جوانب الحياة، من علاقة العبد بربه، إلى سلوكه مع نفسه، ثم في تعامله مع غيره من البشر، بل حتى مع الحيوان والجماد. تتجلى في هذا الحديث عظمة الدين الإسلامي في رعايته للجانب الأخلاقي والسلوكي في كافة نواحي الحياة.

في هذا المقال، يتم تقديم دراسة موسعة حول هذا الحديث، تشمل تخريجه وشرحه، وتحليل دلالاته اللغوية والشرعية، إضافة إلى تطبيقاته العملية في حياة المسلم، واستعراض آراء العلماء حوله، ثم بيان علاقته بمقاصد الشريعة، وأخيراً عرض لمكانة الإحسان في الإسلام كمفهوم شامل يعلو على مجرد الإتقان الظاهري للأعمال.

النص الكامل للحديث وتخريجه

روى مسلم في صحيحه عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:

“إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وليُحدّ أحدُكم شفرته، وليرح ذبيحته”.

تخريج الحديث:

• صحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، رقم الحديث (1955).

• الحديث صحيح متفق عليه من حيث المعنى، وقد وردت شواهده في كتب السنة الأخرى بألفاظ متقاربة.

شرح مفردات الحديث

• “كتب”: المقصود بها هنا: فرض، أو أمر، أو قدَّر. والمراد أن الإحسان مطلوب ومشروع في كل أمر، بل قد يكون واجبًا في بعض الأحوال.

• “الإحسان”: لغةً من الحُسن، وهو ضد القبح. وشرعًا: أداء الأعمال بإتقان، واستحضار المراقبة الإلهية. كما جاء في حديث جبريل: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

• “على كل شيء”: صيغة عموم، تفيد أن الإحسان مطلوب في جميع الأمور دون استثناء.

• “القِتْلة”: بفتح القاف وسكون التاء، أي: الهيئة التي يُقتل بها.

• “الذِّبحة”: الطريقة التي يُذبح بها الحيوان المباح.

• “شفرته”: أي سكينه، والمقصود أن يجعلها حادة لتقليل ألم الذبيحة.

• “يرح ذبيحته”: أي يرفق بها، ويقلل من معاناتها.

المعنى العام للحديث

يقرر النبي ﷺ في هذا الحديث مبدأ عاماً شاملاً، وهو أن الإحسان واجب في كل شيء، وهو ما يشمل كل ما يفعله الإنسان من عبادات ومعاملات وسلوكيات فردية واجتماعية. ثم ضرب مثالاً على ذلك بموضعين كان يُظن أنهما لا يحتاجان إلى رعاية الإحسان، وهما: القتل والذبح. فحتى في هذه المواضع، التي فيها إزهاق روح، أُمر الإنسان أن يلتزم الإحسان. فكيف بغيرها من المواضع التي هي دون ذلك؟

دلالات الحديث ومقاصده العظيمة

1. شمولية مبدأ الإحسان في الإسلام

الإسلام لا يقتصر على أحكام العبادات، بل يشمل منظومة أخلاقية متكاملة. هذا الحديث أحد النصوص النبوية التي تعكس هذه المنظومة الشاملة، فالإحسان لا يقتصر على أداء العبادات فقط، بل يتجاوزها إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، مما يدل على كمال الشريعة وتمامها.

2. الإحسان في العلاقة مع الله

الإحسان إلى الله تعالى يعني أن يعبد العبد ربه وكأنه يراه، فإن لم يستطع فليؤمن بأن الله يراه. هذه المرتبة هي أعلى مراتب الدين، كما ورد في حديث جبريل. وهي دعوة لاستحضار عظمة الله في كل عمل يقوم به المسلم.

3. الإحسان إلى النفس

ويشمل ذلك حفظها من المعاصي والمهلكات، وتزكيتها بالعلم والعمل الصالح، وتجنب الإضرار بها سواء بدنياً أو نفسياً. الإسلام لا يهمل النفس البشرية، بل يدعو إلى رعايتها وتنميتها.

4. الإحسان إلى الغير

سواء كانوا بشراً من أقارب أو أباعد، أو كانوا من غير البشر كالحيوانات. ويتضمن ذلك حسن المعاملة، والكلمة الطيبة، والعدل، والإيثار، وعدم الغش أو الخداع.

التطبيقات العملية للحديث

رأي العلماء في الحديث

قال الإمام النووي:

“هذا الحديث من الأحاديث الجوامع، وهو أصل عظيم في الشريعة، ويدل على وجوب الإحسان في جميع الأمور، ويدخل فيه الإحسان إلى الناس، والبهائم، وحتى في أمور القتل المشروع”.

وقال ابن رجب الحنبلي:

“الحديث يدل على أن الإحسان شامل لكل فعل من أفعال العبد، سواء كان مع الخالق أو المخلوق”.

وأشار ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” إلى أن الحديث يستدل به على عظمة شريعة الإسلام في أنها تدعو إلى اللين والرفق حتى في أشد المواضع مثل القتل والذبح.

الإحسان ومقاصد الشريعة

مقاصد الشريعة الإسلامية تقوم على حفظ الضروريات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، والمال. والإحسان يدخل في صلب هذه المقاصد، بل يُعد وسيلة لتحقيقها:

• حفظ النفس: من خلال الإحسان في المعاملة، وتجنيب القتل أو الإيذاء بغير حق.

• حفظ الدين: لأن الإحسان في العبادة هو شرط كمال الدين.

• حفظ المال: بعدم التعدي عليه، وبالحرص على تنميته من خلال الأعمال المتقنة.

• حفظ العقل: بالتفكر، والتعلم، وتحقيق الرشد في السلوك.

• حفظ النسل: من خلال الإحسان في العلاقات الزوجية، ورعاية الأسرة.

أثر الإحسان في إصلاح المجتمعات

إذا انتشر الإحسان في المجتمعات، تحققت معاني الأمن، والاستقرار، والعدالة، وانخفضت معدلات الظلم والجريمة. فالإحسان يبني الإنسان من داخله، ويُعيد صياغة العلاقة بين الفرد والآخر على أسس من الرحمة والعدل.

وقد بيّن التاريخ الإسلامي أمثلة كثيرة لتطبيق الإحسان، من حياة النبي ﷺ، وأصحابه، والتابعين، في تعاملهم مع الأسرى، ومع الأعداء، وحتى مع الحيوانات والجمادات.

مكانة الإحسان في القرآن الكريم

ورد ذكر الإحسان في العديد من المواضع القرآنية، منها:

• قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ﴾ [النحل: 90].

• وقوله: ﴿وَأَحۡسِنۡ كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَ﴾ [القصص: 77].

• وقوله: ﴿وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

كل هذه الآيات تشير إلى أن الإحسان ليس فقط مطلوبًا، بل هو من صفات المؤمنين المحبوبين عند الله.

علاقة الإحسان بالإيمان والإسلام

في الحديث المعروف بحديث جبريل، قُسّم الدين إلى ثلاث مراتب:

1. الإسلام: الظاهر من الأعمال.

2. الإيمان: الباطن من التصديق.

3. الإحسان: قمة الإيمان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه.

وبذلك، فإن الإحسان هو أرفع مراتب الدين، ولا يصل إليه إلا من ترسخ الإيمان في قلبه، وظهر أثره في سلوكه الظاهر والباطن.

الذبح والقتل كمثال تطبيقي للإحسان

أشار النبي ﷺ في نهاية الحديث إلى ضرورة الإحسان في الذبح والقتل، وهو ما يعكس الرحمة حتى مع الحيوانات:

• أن تكون الآلة حادة.

• أن لا يُذبح الحيوان أمام غيره.

• أن لا يُرهق قبل الذبح.

• أن يتم الذبح بسرعة ورحمة.

وهذا من دلائل الرحمة التي امتاز بها الإسلام على غيره من النظم البشرية.

خاتمة

حديث: “إن الله كتب الإحسان على كل شيء…” ليس فقط قاعدة فقهية أو توجيهًا أخلاقيًا، بل هو مبدأ شامل للحياة. هو دعوة للمسلم أن يكون محسناً في دينه ودنياه، في خلوته وجلوته، في علاقته بخالقه وبنفسه وبالناس أجمعين، بل وحتى بالمخلوقات الأخرى. الإحسان الذي دعا إليه الحديث لا يعرف حدودًا، ولا يميز بين موقف وآخر، بل هو طابع الشخصية المسلمة في كل حال.

المسلم الذي يتشرب هذا المعنى العظيم، ويتعامل به في يومه، يصبح نموذجًا للخلق النبيل، والسلوك المتزن، والضمير الحي.

المراجع

1. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

2. ابن رجب الحنبلي، “جامع العلوم والحكم”.