الأم العاملة والشعور بالتقصير

الأم العاملة.. ضحية الشعور بالتقصير

تواجه الأم العاملة تحديات جمة تتعدى مجرد إدارة الوقت أو إنجاز المهام الوظيفية، إذ تقف في معترك معقد من الضغوط النفسية والاجتماعية التي تؤثر على صورتها الذاتية وشعورها بقيمتها كأم وكامرأة عاملة في آن واحد. يتجلى هذا الصراع في إحساس متواصل بالتقصير، ينبع من معايير اجتماعية متجددة أو متوارثة تجعل من مهمة الأمومة والعمل معًا أمرًا يصعب على الكثيرات تحقيقه دون الشعور بالذنب أو القلق الدائم. إن هذا الشعور لا يقل أهمية أو تأثيرًا عن الأعباء الواقعية التي تواجهها الأم، بل قد يكون أشد وقعًا على صحتها النفسية والجسدية، مؤديًا إلى نتائج سلبية قد تنعكس على الأسرة بأكملها.

طبيعة الدور المزدوج للأم العاملة

تتقاطع حياة الأم العاملة بين فضاءين مختلفين: الأول هو فضاء العمل حيث تُطلب منها الكفاءة والإنتاجية والالتزام بالمواعيد، والثاني هو فضاء الأسرة حيث من المتوقع أن تكون الراعية الحنونة والمدبرة لكل تفاصيل الحياة الأسرية. يتطلب هذا التداخل مهارات عالية في التوازن والتنظيم، لكنه أيضًا يفرض ضغوطًا تتجاوز الحدود الطبيعية. ففي حين يُشجع المجتمع العمل ويعزز الاستقلالية الاقتصادية للمرأة، لا تزال المعايير التقليدية حول دور الأمومة تطالبها بتقديم رعاية مثالية ومستدامة لأطفالها دون نقص أو هفوة، وهو أمر شبه مستحيل في ظل ضيق الوقت وتداخل المسؤوليات.

مصادر الشعور بالتقصير

تتعدد المصادر التي تغذي شعور الأم العاملة بالتقصير، بعضها يرتبط بالذات وبعضها الآخر ينبع من البيئة المحيطة:

• المقارنة الاجتماعية: تميل الأم العاملة إلى مقارنة نفسها بالأمهات اللاتي يقمن بالبقاء في المنزل، مما يزيد لديها الإحساس بأنها غير قادرة على تقديم الحنان أو الرعاية الكافية لأطفالها. هذا الشعور يتعزز مع انتشار صور مثالية للأمومة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي غالبًا ما تقدم صورة غير واقعية للحياة الأسرية.

• المطالب المهنية المتزايدة: مع ازدياد حجم العمل وتعقيده في كثير من الوظائف، تجد الأم نفسها مضطرة للعمل لساعات إضافية أو أخذ مهام إضافية، مما يقلص الوقت المتاح للأسرة ويولد إحساسًا بالعجز عن الوفاء بكافة الأدوار.

• الافتقار للدعم الاجتماعي: قلة الدعم من المحيطين، سواء كان الزوج، الأسرة الممتدة، أو حتى المجتمع، تؤدي إلى زيادة الضغوط على الأم العاملة. غياب فهم حقيقي لتحدياتها يفاقم شعورها بالعزلة والذنب.

• الداخل النفسي والضمير: تحمل الأم العاملة توقعات داخلية عالية حول دورها في الأسرة، وتحاول جاهدة أن تكون مثالية في كل جانب، لكنها غالبًا ما تواجه تعارضًا بين ما تريده لنفسها وبين ما تفرضه عليها مسؤولياتها.

أثر الشعور بالتقصير على الأم والأسرة

يتجاوز الشعور بالتقصير حدود المعاناة النفسية ليصل إلى تأثيرات عملية على حياة الأم والأسرة:

• الإرهاق النفسي والجسدي: الضغط النفسي المستمر الذي تسببه هذه المشاعر يولد توترًا دائمًا ينعكس على الصحة الجسدية، فيزيد من احتمالية الإصابة بأمراض مثل الأرق، اضطرابات الجهاز الهضمي، والصداع المزمن.

• تراجع جودة العلاقة الأسرية: إحساس الأم بأنها غير كافية قد يجعلها أقل قدرة على التفاعل الإيجابي مع أفراد الأسرة، ما قد يؤدي إلى توتر في العلاقات الزوجية والأبوية.

• تأثير سلبي على الأطفال: الأطفال يتأثرون بشكل مباشر بحالة الأم النفسية، حيث قد يشعرون بالانفصال العاطفي أو بالتوتر داخل البيت، ما قد يؤثر على نموهم النفسي والاجتماعي.

• تراجع الأداء الوظيفي: على الرغم من الجهد الكبير الذي تبذله الأم العاملة، فإن الشعور الدائم بالتقصير قد يؤدي إلى فقدان التركيز وزيادة الأخطاء المهنية، مما يعرضها لمزيد من الضغوط.

استراتيجيات مواجهة الشعور بالتقصير

تتطلب مواجهة هذا الشعور وعلاج تداعياته استراتيجيات شاملة تعزز من صحة الأم النفسية وتدعم توازنها بين العمل والأسرة:

1. إعادة تعريف النجاح والتوقعات

ينبغي أن تعيد الأم العاملة صياغة مفهوم النجاح لديها، بحيث يشمل الواقع المعاش وليس مجرد المثالية. تقبل أن تكون غير كاملة، وأن وجودها ومجهودها في حد ذاته نجاح كبير، يساعدها على تخفيف الضغوط النفسية.

2. تحسين إدارة الوقت وتحديد الأولويات

وضع خطط واضحة لتنظيم الوقت بين العمل والأسرة يقلل من حالة الفوضى والشعور بالعجز. تعلُّم تقنيات تنظيم الوقت مثل تقسيم المهام وتفويض بعضها للزوج أو أفراد الأسرة يخلق مساحة أكبر لتلبية الاحتياجات المختلفة.

3. البحث عن الدعم الاجتماعي والمهني

وجود شبكة دعم قوية من العائلة، الأصدقاء، وحتى زميلات العمل يخفف من الشعور بالوحدة ويقدم مساعدة فعلية في مواجهة التحديات. بعض المؤسسات توفر برامج دعم للأمهات العاملات، مثل مرونة ساعات العمل أو توفير خدمات رعاية الأطفال.

4. العناية بالنفس

الاهتمام بالنفس الجسدية والنفسية من خلال ممارسات مثل الرياضة، النوم الكافي، والأنشطة الترفيهية ضروري للحفاظ على التوازن الداخلي. حضور جلسات استشارية نفسية أو مجموعات دعم يمكن أن يوفر مساحة للتعبير عن المشاعر ومناقشتها.

5. تواصل مفتوح مع الأسرة

فتح قنوات حوار مع الزوج والأبناء عن ضغوط العمل والشعور الداخلي، يخلق تفاهمًا مشتركًا يمكن أن يخفف من الأحمال النفسية، ويسمح بتوزيع المسؤوليات بشكل أكثر عدالة.

تأثير التطور الاجتماعي على تجربة الأم العاملة

شهدت العقود الأخيرة تحولات مهمة في دور المرأة في المجتمع، حيث ازدادت نسبة النساء المشاركات في سوق العمل بشكل ملحوظ. هذا التحول الاجتماعي أدى إلى ظهور تحديات جديدة مرتبطة بتوازن الحياة العملية والعائلية. في حين أن التغيرات القانونية والاجتماعية مثل قوانين إجازة الأمومة وحماية حقوق النساء في العمل كانت بمثابة دعم مهم، فإن المجتمع لا يزال بحاجة إلى مزيد من التقدم في تغيير النظرة التقليدية لدور الأم لتكون أكثر شمولاً وواقعية.

هذا التطور يتطلب تحولا في الثقافة المجتمعية، إذ لا يمكن تحميل الأم وحدها مسؤولية نجاح الأسرة أو تربية الأبناء، بل يجب مشاركة الأب بقسط أكبر من المسؤولية، وإعادة بناء نظام دعم اجتماعي يساند الأمهات في مسيرتهن العملية والأسرية.

جدول يوضح الفرق بين الضغوط التي تواجهها الأم العاملة والأم غير العاملة

الخلاصة

تتسم حياة الأم العاملة بصراع معقد بين متطلبات العمل والتزامات الأمومة، يصاحبه شعور دائم بالتقصير ينعكس سلبًا على حالتها النفسية وصحة أسرتها. هذا الشعور ليس مجرد تعبير عابر، بل هو نتيجة لضغوط متراكمة ومتداخلة، ويحتاج إلى مواجهات جذرية تشمل تغيير المفاهيم الاجتماعية، توفير الدعم الحقيقي، وتبني استراتيجيات فعالة لإدارة الوقت والعناية بالنفس. تعزيز مكانة الأم العاملة في المجتمع وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي لها ليس فقط مسألة حقوق فردية، بل استثمار في صحة الأسرة والمجتمع ككل.

المصادر والمراجع

1. Greenhaus, J.H., & Powell, G.N. (2006). When work and family are allies: A theory of work-family enrichment. Academy of Management Review, 31(1), 72-92.

2. Nomaguchi, K.M., & Milkie, M.A. (2020). Parenting Stress and Well-Being: Effects of Work-Family Context. Journal of Marriage and Family, 82(1), 67-83.